*العلم الإلكترونية: بقلم // ذ. عبده حقي*
تشهد قضية الكاتب الجزائري بوعلام صنصال منعطفاً حاسماً يحاصر النظام الجزائري في زاوية ضيقة أكثر من أي وقت مضى. فالرجل الذي تحوّل خلال عام واحد من كاتب مثير للجدل إلى “عبء سياسي” لم يكن النظام يتوقع ارتفاع وزنه بهذا الشكل في العالم ، أصبح اليوم ملفاً دولياً بامتياز، يكشف هشاشة الرواية الرسمية ومحاولة استغلاله داخل لعبة التوازنات الدبلوماسية.
منذ بداية التوتر بين الجزائر وباريس عقب التحولات الفرنسية في ملف الصحراء المغربية واعتراف باريس الصريح بمقترح الحكم الذاتي، لجأ النظام الجزائري إلى استثمار إسم صنصال لتغذية الخطاب المعادي لفرنسا.
لقد قُدّم الكاتب للرأي العام الدولي كخطر داخلي، و"خائن" و"أداة استعمارية"، بغرض تحويل انتباه الجزائريين عن الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي انفجرت مع بداية الولاية الثانية للرئيس تبون؛ من انهيار القدرة الشرائية إلى تراجع قيمة الدينار إلى التشديد على الحريات العامة وارتفاع منسوب عدم الرضا الشعبي العارم.
خلال سنة كاملة، تم تقديم صنصال كفزّاعة سياسية؛ رجلٌ "فرنكفوني مشبوه"، "قريب من دوائر اليمين المتطرف"، "عدو للوطن". لكن المفارقة أن الإدانة الثقيلة التي حُكم بها، خمس سنوات سجناً نافذاً على خلفية منشورات فيسبوكية ورسائل خاصة عبر واتساب مع دبلوماسيين فرنسيين، كانت القشة التي كشفت عمق المأزق. فالملف لا يستند إلى جرائم فعلية، ولا يحتوي أي تهديد أمني، بل يعكس رغبة النظام في صناعة عدو داخلي يسهل استثماره إعلامياً.
غير أن التطور الأخطر جاء يوم 10 نوفمبر الحالي، حين تدخّل الرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير شخصياً، عبر اتصال رسمي مع الرئيس عبد المجيد تبون، مطالباً بالإفراج الفوري عن صنصال من دون قيد أو شرط ونقله إلى ألمانيا لتلقي العلاج نظراً لحالته الصحية الحرجة. وهذا التدخل ليس عادياً. إنه رئيس ألمانيا، ثالث أكبر قوة اقتصادية في العالم، ورجل خبر شمال إفريقيا وخدم لسنوات طويلة كوزير للخارجية.
الألمان لم يروا في صنصال “عميلاً فرنسياً” كما حاول الإعلام الرسمي تصويره وترويجه، بل رأوا فيه كاتباً عالمياً حصد جوائز أدبية ألمانية، وترجمت أعماله إلى الألمانية، وله مكانة راسخة في المشهد الثقافي الأوروبي. بهذا المعنى، صار الملف بالنسبة لبرلين قضية حقوق إنسان قبل أن يكون خلافاً ثنائياً.
والرسالة الألمانية جاءت محكمة وباختصار شديد الإفراج عن الكاتب صنصال سيكون تعبيراً عن روح إنسانية ورؤية سياسية بعيدة المدى، وسيعكس عمق العلاقات بين البلدين. لكن في المقابل، تجاهل هذا الطلب يعني إحداث شرخ عميق وضافي في علاقة تاريخية لطالما كانت مستقرة وإيجابية، خصوصاً أن ألمانيا كانت الدولة التي أنقذت حياة تبون نفسه خلال علاجه من مضاعفات كورونا عام 2020.
إن السلطات الجزائرية لم تعد قادرة على استخدام الحجج ذاتها التي تستعملها ضد فرنسا. ألمانيا ليست قوة استعمارية، ولا تتدخل في الشؤون الداخلية للجزائر، ولا تحمل إرثاً دموياً في الذاكرة الوطنية. إنها دولة تحظى بصورة إيجابية لدى الجزائريين. وبالتالي، فإن الردّ بالرفض أو التجاهل سيبدو عدوانياً وغير مبرر.
وفي المقابل، الاستجابة للطلب الألماني لن يكون بلا ثمن. فكيف سيوضّح النظام للجمهور الذي تمت تعبئته طيلة عام كامل بأن الرجل ليس "خائناً"، بل "كاتباً يستحق التعاطف"؟ وكيف سيبرر الإفراج عن صنصال بينما لا يزال عشرات من معتقلين الرأي السياسيين يقبعون داخل السجون؟ ولماذا العلاج في ألمانيا وليس في مستشفيات الجزائر؟
الأخطر من ذلك أن النظام يدرك أن خروج صنصال من السجن ستحمله وسائل الإعلام الدولية على الأكتاف. سيكتب مذكراته، سيُستضاف في القنوات الكبرى، وسيصبح رمزاً للقمع السياسي في الجزائر. بعبارة أخرى: لقد صنع النظام من الكاتب “بطلاً” من حيث لا يدري ولا يريد، وصار الإفراج عنه خطوة تحمل مخاطر سياسية داخلية وخارجية.
ومع ذلك، تشير كل المعطيات إلى أن عدم الإفراج عنه سيكون كارثياً. فالجزائر اليوم معزولة دبلوماسياً نتيجة إخفاقات سياسية عديدة، ولا يمكنها تحمل خسارة دعم قوة كألمانيا. كما أن استمرار اعتقال كاتب مريض يعاني من مضاعفات السرطان لا يفعل سوى تعزيز الصورة السلبية للجزائر كدولة تعادي حرية التعبير.
في المحصلة، يعكس ملف صنصال سوء تقدير سياسي تحوّل إلى ورطة دولية. لقد أرادت السلطة استخدامه كأداة لحشد الغضب الشعبي ضد فرنسا، فإذا به يتحول إلى كرة نار تتدحرج نحو كرسي الرئيس تبون. الآن، يبدو أن النظام لم يعد يملك إلا خيارين أحلاهما مر: إما الإفراج عنه والمخاطرة بصدمة داخلية، وإما الإبقاء عليه في السجن والمخاطرة بفقدان آخر حلفائه.
لكن الأكيد أن الرجل، سواء خرج اليوم أو غداً، فقد أصبح ذو رمزية أكبر بكثير مما توقعه خصومه. ومن المفارقات المؤلمة أن النظام الذي عمل على تدميره، هو نفسه الذي منحه درع البطل.
رئيسية 








الرئيسية


