Quantcast
2025 يوليوز 28 - تم تعديله في [التاريخ]

كلام عابر: تأسيس المراتب الاجتماعية من منظور نظرية روبيرت براندوم للمواقف المعيارية


كلام عابر: تأسيس المراتب الاجتماعية من منظور نظرية روبيرت براندوم للمواقف المعيارية

*بقلم / / الدكتور لحسن الياسميني*

يقدّم الفيلسوف الأمريكي روبرت براندوم في مشروعه الفلسفي المعاصر تصورًا دقيقًا لكيفية تأسيس الأوضاع المعيارية في المجتمعات، أي المراتب التي يحتلها الأفراد، انطلاقًا من نظرية المواقف المعيارية، أي تصرفات الأفراد فيما بينهم التي ترتكز على مفاهيم الاعتراف، والمساءلة، والتبرير. وتقوم هذه النظرية على أساس أن الأفراد أنفسهم هم من يؤسسون هذه الأوضاع أي المراتب الاجتماعية ، من خلال أفعالهم ومواقفهم المتبادلة، لا عبر معايير مفروضة سلفًا. وهذا يعني أن الوضعيات الاجتماعية ليست جاهزة مسبقًا، بل تتشكل داخل شبكة العلاقات التفاعلية، حيث يُعطي كل فاعل للآخر مكانته انطلاقًا مما يعترف به أو يرفضه. وهذا التصور هو امتداد معاصر ودقيق للفكرة الهيغلية عن جدل العبد والسيد، حيث لا تتأسس الهوية إلا من خلال الصراع من أجل الاعتراف.

هذا المشروع، الذي وُضع له الأساس المفهومي في أعماله السابقة مثل Making It Explicit وArticulating Reasons، وجد امتداده العميق في قراءته الفلسفية لكتاب هيغل فينومينولوجيا الروح، الذي  قمت بترجمته إلى العربية ضمن ترجمتي الكاملة لكتاب روح الثقة، والذي سيصدر عن دار نادي الكتاب السعودي إن شاء الله، مع كل من ترجمة كتاب توضيح الأسباب، وكذلك كتابي الموسوم آفاق ما بعد التحليلية في فلسفة روبيرت براندوم.

من خلال هذه القراءة الهيغلية، يعيد براندوم بناء فهم جديد لكيفية تشكّل الذات الاجتماعية، وكذا كيفية ترسّخ المراتب والتراتبيات داخل المجتمع، ليس بوصفها معطًى طبيعيًّا أو بيولوجيًّا، بل بوصفها بناءً معياريًّا يتأسس عبر شبكة من مواقف الاعتراف التي تتفاعل فيما بينها. فالناس لا يحتلون المراتب الاجتماعية لأنهم وُلدوا لها، بل لأنهم ينتجونها بأنفسهم من خلال أنماط تعاملهم المتبادل، ومن خلال توزيعهم الضمني للاعتراف والتبرير والمساءلة. وهنا، تصبح التراتبيات الاجتماعية – مثل مراتب السيادة والخضوع، أو التفوق والدونية – ناتجة عن أشكال التوزيع غير المتكافئ للاعتراف، والذي يؤسس في نهاية المطاف لذوات معيارية "معيبة"، كما يسميها براندوم.

الفيلسوف الأمريكي روبرت براندوم

كلام عابر: تأسيس المراتب الاجتماعية من منظور نظرية روبيرت براندوم للمواقف المعيارية

يعرض براندوم هذا المنظور أولًا في مختلف كتبه السابقة التي أسست مشروعه الفلسفي، ثم يعمقه بشكل خاص في قراءته لـفينومينولوجيا الروح في كتابه روح الثقة، حيث يتابع كيف تؤدي أشكال الخضوع والطاعة التقليدية إلى إنتاج بنى معيارية لا تمكّن من استقلالية فاعلة، بل تُنتج تبعية مستبطَنة وممأسسة.

من خلال قراءته لجدلية العبد والسيد عند هيغل، لا يسعى براندوم فقط إلى تحليل العلاقة القائمة بين وعيين متصارعين في سبيل الاعتراف، بل إلى إظهار كيف يمكن لبنية اجتماعية كاملة أن تُنتج مراتب اعتبارية قائمة على مفارقات معيارية. ففي المقاطع التي ترجمتها من روح الثقة، يتضح كيف أن السيد، الذي يبدو في ظاهر الأمر مستقلاً، يظل في حقيقة الأمر مرتهنًا لاعتراف العبد، رغم أنه يحتقره ولا يعترف به. هذه الوضعية المفارِقة تجعل من وضع السيد وضعًا هشًّا، بل مرضيًّا من الناحية السيكولوجية، لأن هويته تستند إلى اعتراف من طرف من لا يعترف بهم.

وهذا ما يعبّر عنه براندوم بتحليل سيكولوجي-معياري لوضعية "المشاهير"، الذين يشعرون بتفوق اعتباري على الجمهور، لكنهم في الوقت ذاته يستمدون هذا التفوق من اعتراف هذا الجمهور نفسه، رغم احتقارهم له. في هذه البنية، يتم التأسيس العملي للمراتب من خلال شبكة معقدة من المواقف المعيارية التي تُمارس فيها السلطة من طرف أولئك الذين لا يُعترف بهم كذوي سلطة. ويشير براندوم هنا إلى أن تقدير الذات يصبح صعب المنال عندما ننظر إلى أنفسنا في مرآة من نحتقرهم.

يُقارن براندوم هذه الوضعية بوضعيات معيارية غير معيبة، مثل الوضعية التي يُكتسب فيها الاعتراف ضمن جماعة مهنية أو معرفية، كما في مثال لاعب الشطرنج الجيد. فهنا، لا يمكن للمرء أن يكتسب وضعًا معياريًّا فقط من خلال تبني موقف ذاتي اتجاه نفسه، بل من خلال الاعتراف المتبادل بينه وبين جماعة معيارية يعترف بها وتَعترف به. هذا الاعتراف المتبادل وحده هو ما يكوّن الذات كذات مستقلة وشرعية من الناحية المعيارية.

إن هذا المنظور الذي يقدّمه براندوم ليس فقط تحليلًا فلسفيًّا للعلاقات الاجتماعية، بل هو أيضًا نقد للأشكال السائدة من السلطة الرمزية والتراتبية، التي غالبًا ما تُخفي تبعيتها العميقة لتقديرات واعترافات من يُحتقرون علنًا. إن تأسيس المراتب في المجتمع، بهذا المعنى، ليس معطًى طبيعيًّا، بل هو نتيجة بنى معيارية قابلة للنقد، والمساءلة، وإعادة التأسيس.

وعليه، فإن استحضار نظرية المواقف المعيارية عند براندوم، التي تؤسس الأوضاع المعيارية وضاعأوضاع  كما طوّرها في أعماله الأولى وعمّقها في روح الثقة، يتيح لنا إمكانات جديدة لفهم التفاوت الاجتماعي، وموقع الذات ضمن النسيج الاجتماعي، ليس فقط بوصفه انعكاسًا لعلاقات قوة، بل كبناء معياري يُعاد تشكيله باستمرار من خلال أفعال الاعتراف والتبرير والمساءلة المتبادلة.

              

















MyMeteo




Facebook
YouTube
Newsletter
Rss

الاشتراك بالرسالة الاخبارية
أدخل بريدك الإلكتروني للتوصل بآخر الأخبار