2023 يناير 22 - تم تعديله في [التاريخ]

أخلاقيات مهنة الصحافة على محك السيولة الرقمية


العلم الإلكترونية - أنس الشعرة
 
في نتائج المؤشر العربي الذي أصدره المركز العربي للدراسات والأبحاث السياسية بقطر، بدايةَ السنة الجارية، أكد المسح الذي أجراهُ المركز على33300 فرد، موزعة على 14 بلدًا عربيًا، منها المغرب، أنّ 86 بالمائة من مستخدمي الإنترنت لديهم حساب على منصة "الفيسبوك"، و81 بالمائة لديهم حساب على "واتس أب"، و47 بالمائة لديهم حساب على "انستغرام"، و37 بالمائة لديهم حساب على "سناب شات"، و34 بالمائة لديهم حساب على "تويتر". وضمنَ المؤشرِ ذاته أفادَ 52 بالمائة أنهم يثقون بالمعلومات التي ينشرها المؤثرون على منصات التواصل الاجتماعي، مقابل 48 بالمائة عبروا عن عدم ثقتهم. وعبّر 49.7 بالمائة من المغاربة عن ثقتهم بالمؤثرين وما ينشرونه على صفاحتهم.
 
ومن خلال هذهِ الأرقام الحديثة، أمكن معرفة توجهات الجمهور واهتماماته، فإذا كانَ "الخبر الصحافي" إحدى مرتكزات العمل المهني في ميدان الصحافة، فإن منصات التواصل الاجتماعي أضحت مصنعًا للأخبار، ومعَ بروز "صحافة المواطن"، الذي أضحى قريبًا منَ الحدث لحظة وقوعه. وفي ظل غياب "الصحافي المهني"، عن موقع الحدث لأسباب مهنية أو غيرها، أصبحَ الخبر ينتشر بسرعة فائقة بفضل تقنية التصوير، ما جعلَ العمل الصحافي برمتهِ على المحك، فهو من جهة مطالب بالالتزام بأخلاقيات المهنة، ومن جهةٍ أخرى هو واقع تحتَ وطأةِ المؤسسة الإعلامية التي ينتمي إليها، التي تطالبه بمواكبة مستجدات الأخبار كيفَ ما كان نوعها، ما دامَ أنها تروق ذوقَ الجمهور! ومن جهةٍ ثالثة فإنه واقع تحتَ إكراه قِيمه المهنية وتمثيلها على أحسن وجه، وبرؤيتهِ لوظيفتهِ الاجتماعية، هذهِ الثلاثية تؤدي دورًا حيويًا في علاقة الصحافي بالأخبار وبباقي "الأجناس الصحافية" عمومًا، وهي تحددُ هويته أيضا بوصفه صحافيًا مهنيًا وترتفع به من مغبةِ السقوط في الابتذال المهني. وتأتي في مقدمة التحديد "الهوياتي" للصحافي المهني، مدى التزامهِ بأخلاقيات المهنة، فما هي أخلاقيات مهنة الصحافة؟ وما هي تحدياتها في سياق "السيولة الرقمية"؟
 
أولا: يجب التمييز بينَ أخلاقيات مهنة الصحافة وآداب المهنة، بكونِ الأولى تتعلق بمجمل السيرورة الإعلامية، بينما تتعلق الثانية بالصحافي ذاته، أي بنشاطهِ الذاتي. وتعد أخلاقيات المهنة قوة رمزية ومادية بالنسبة للصحافي، فهيَ تلزمهُ بعدم السقوط في السب، أو التشهيرِ، أو التلفيق، أو التحريض على العنف والكراهيةِ وغيرها منَ الأخلاقيات التي تؤطر عمله وتمنعهُ من الزلل، وبكلمة فإن أخلاقيات مهنة الصحافة هي الدستور الأساس لممارسة صحافية ناجعة.
 
ثانيا: بسبب "السيولة الرقمية" (Digital liquid)، التي نعيشها منذ عقود ، بات العالم وأشياءه أكثر عرضة للظهور، فالتغيرات البنيوية التي أحدثتها هذه الثورة امتدت إلى حياتنا الشخصية، بل إلى أدق تفاصيلها الحميمية، وفي غمرةٍ أضحت هذه المنصات الرقمية المفتوحة تسيطر على هذه الحياة؛ ولئن كانَ الصحافي قبل منصات التواصل الاجتماعي يتحرى الدّقة في الخبر، محاولاً نقلَ الحقيقة للجمهور المهتم، عبر الانضباط لقواعد الممارسة المهنية، أضحى اليوم يُجر جرًا إلى هاته المنصات التي تذيعُ الخبر تحتَ قاعدة حصدِ "اللايكات" وثقافة "البرطاج".
 
سقوط الصحافة المهنية ضحية "المنطق الخوارزمي" لمنصات التواصل الاجتماعي، متواصل ومطرد بشكل لا حدّ له، ولاسيما بعد أن صارَ الجمهور هو القاعدة وليسَ الخبر ودقته، وبالتالي؛ كانَ لابد والحالة هاته من أن تُخترق أخلاقيات المهنة، فالأخبار الزائفة (Fake news)، تواصل زحفها على حياتنا العمومية والخاصة أيضا. ولا يتوقف خطر الخبر الزائف بإيذاعه فقط، بل يمتد تأثيرهُ عندما يسقط في عمليات الإنتاج وإعادةِ إنتاجهِ، وبالتالي؛ فإن منصات التواصل الاجتماعي منحت هذهِ الإمكانية الإنتاجية، للأخبار الزائفة التي تواصل مدها، في ظل غياب التربية الإعلامية السليمة، وكيفية التعامل معَ الأخبار وضبط تدفقها.
 
وهكذا انتُزِعَ العمل الصحافي، فبدل أن يتم التعامل مع هاته التدفقات، بطريقة نسقية، تبحث في المتصل والمنفصل في الخبر والحدث، وقراءة أبعاده، أصبح كل جهد العمل الصحافي هو التدقيق في المحتوى وتجنب الخبر الزائف، وهنا تضيع وظيفة الصحافة وقواعدها الأخلاقية، ويغيب الصحافي كذات وسيطة في الإخبار والتحليل معًا.
 
وفي ظل هذا الوضع، لا يجب أيضا إغفال مسألة أخرى متعلقة بالصحافة المهنية (الورقية والرقمية)، التي تعيشُ حالة أزمة، لأسباب عدة من أهمها: اللهاث المحموم نحوَ الأخبار التي تطبعُ ذوق الجمهور، وتؤطر ذهنيته، وتشبعُ "مِخياله"، والغريب أنّ ما يعرف بـ "الصحافة الصفراء" !! التي تتبع موجات التشهير و "البوز" والفضيحة، أضحت هيَ المقياس، والباقي يعد شاذًا عن الركب، إذا استندَ إلى أخلاقيات المهنة. نحنُ أمامَ مشهدٍ بات على الصحافة الجادة تغييرهُ على وجه السرعة، لأنه يهددها وظيفيًا وحيويًا.
 
هذا هو المشهد العام ببلادنا، واستمرار الصحافة المهنية بقيمها المؤطرة رهينٌ بعاملين:
 
الأول: يرتبط بالمهنة ذاتها: أي بابتكار "براديغم" يوائمُ بينَ "السيولة الرقمية"، والحفاظ على أخلاقيات وضوابط المهنة؛
 
الثاني: يتعلق بضرورة توفير بيئة يُنتج فيها العمل الصحافي في سياق مهني ودونَ تبخيس؛
 
وبناء عليه؛ فإن الحديث عن أخلاقيات المهنة في ظل هاته الوضعية، يعد قفزًا على الواقع الذي لا يرتفعُ، ليسَ الأمر –هاهنا- حكمًا قطعيًا، بل لعّلة غياب العاملين أعلاه. إن حالة الشك والريبة التي تعيشها الصحافة يجب أن تملأهُ باليقين الذي أخذتهُ على عاتقها، في اللحظة التي انتزعت اعترافَ السلط إليها بوصفها سلطة رابعة، أو هكذا تكون !
 
 



في نفس الركن