2022 يوليو/جويلية 4 - تم تعديله في [التاريخ]

أعلى معدل: أسطورةٌ تهدمُ الابداع !


العلم الالكترونية - بقلم مصطفى أدها

المقاربة بالكفايات، منذ أكثر من عشرين سنة ونحن نرَدّد أنها جاءت لتجدّد مفهوم "التعلّم" ولتمنحه أبعاداً كبرى. المقاربة بالكفايات كانت ، إلى جانب التربية على القيم والتربية على الاختيار المداخل الكبرى التي جاء بها الميثاق الوطني للتربية والتكوين. هذه المقاربة تستمد مقوماتها من مدارس فكرية ولغويّة وتربويّة كالبنائيّة التي تؤكد ضرورة التدرّج في التعلم و السوسيوبنائيّة التي تقول بضرورة بناء معارف في سياقاتٍ ملموسة قريبة من واقع المتعلم، فضلا عن بعض نظريات تشومسكي الذي يوضح، على سبيل المثال، أنّ أي نشاط سلوكي يتأثر بالحافزيّة وحب الاستطلاع و التمثّلات...

نعلمُ جميعا أنّ المقاربة بالكفايات، من حيث الأصل والمبدأ، مقاربة ناجعة، لكن طرائق تنزيلها على أرض الواقع هو ما يضعنا أمام إشكالاتٍ حقيقية.

بعد الإعلان عن نتائج البكالوريا، شرعت صفحاتٌ، بعضها تابعة للوزارة الوصية وأخرى لبعض الأكاديميّات و المديريات الإقليمية في نشر ما يُسمّى "أعلى معدل" أو "أعلى المعدلات" التي تهمّ تخصصا بعينه.

يتساءل المؤمن بالمقاربة بالكفايات: ما لكم كيف تحكمون؟ أم لكم كتابٌ منه تقرؤون ما تنشرون؟

مدخل كامل في الميثاق الوطني مخصص للتربية على الاختيار وشعار الرؤية الاستراتيجية الذي يتبجّح به كثيرون يؤكدُ أنّنا نتوقُ إلى مدرسة تضمن الإنصاف والجودة والارتقاء! ثمّ نجدُ، على غفلةٍ من أمرنا، أنّ هناك من صنع أسطورةً أطلقَ عليها اسم "أعلى معدّل"!

إنّ المقاربة بالكفايات، أيها المسؤولون، هدفها الأسمى وغايتها العظمى تحفيز المتعلمين على الإبداع وتشجيعهم على الابتكار. لذلك فالتركيز على معدلٍ واحد في البكالوريا مرآةٌ ضخمة تُرينا عيوب منظومتنا التربوية التي تعشقُ الشعارات.
البكالوريا هي شهادة نختبرُ فيها كل تلميذ في التخصص الذي اختاره منذ ولوجه الجذعَ المُشترك . مقارباتكم ومناهجكم وبيداغوجياتكم، كلّها، تؤكد أنّ الاختيار هو السبيل الوحيد الذي يُسهم في ضمان المردوديّة...

بناءً على ما وضحناه أعلاه، ينبغي أنْ يُعلنَ عن المعدلاتِ في كل شعبة، بل في كلّ مسلكٍ . أيها الناس! أنتم أعلمُ بكل هذا! فلكلّ تخصّص مقوماته وأسسهُ. فقولكم "أعلى معدّل" يُفهمُ منه، دلاليّاً -واسألوا العارفين- أنّ التلاميذ جميعهم، اجتازوا اختبارا واحدا! كأنّه لا وجود إلاّ لشعبة واحدة!

أيها الناس! إنّ الحاصلين على معدّلات ممتازة في الرياضيات والفيزياء والكيمياء والعلوم الطبيعية ،إنْ تمّ توجيههم توجيهاً سليما ووفرنا لهم كل ما يحتاجونه، سيُسهمون في المضيّ قُدُماً ببلادنا. الشيء ذاتُه ينطبق على الحاصلين على معدّلاتٍ جيّدة في مسلكي الآداب والعلوم الانسانية . هؤلاء، إنْ كانوا لحبّ القراءة والكتابة والاستطلاع أوفياءً و من أدوات التحليل مُتمكنين ، فلا شكّ أنّهم سيطلقون العِنان لإبداعهم ولقدراتهم في الكتابة الروائية أو الفلسفية أو في التحليل السياسي أو في كتابة المقالة الصحفيّة...

حقيقٌ بكم أنْ تُعلنوا عن أعلى المعدّلات في كلّ مسلكِ ، فذاك هو الإنصاف . بل إنّه لو شئنا أنْ نرفع درجة الإنصاف، لأعلنّا مثلا عن أعلى المعدلات في كلّ مادة، خصوصا في مادّتي الفلسفةِ واللغة العربيّة لنكتشف إنتاجات التلاميذ من حيث اللغة والأسلوب ومدى قوة مقارباتهم التحليليّة-التفكيكيّة. كل هذا من أجل غاية نبيلة: إعطاء كلّ ذي حقّ حقّه وتكريم كل مُجدّ والاعتراف بابداع كلّ مبدعٍ خلاّق...

إنّ تكريم التلميذ محفزّ حقيقي سيُمكنّه من الاستمرار . أتذكر فرحتي حينما حصلت على شهادة البكالوريا، فرحة زادَ تأثيرها لمّا تمّ تكريمي من قِبل مديريّة زاكورة بمناسبة حصولي على المرتبة الأول في مسلك العلوم الانسانيّة. في المقابل، حصلت تلميذةٌ على المرتبة الأولى في مسلك الآداب.

التحفيز قوةّ داخلية قادرة على تحريكِ جلمودٍ صخر. ومن آية ذلك أنّ مرحلة البكالوريا كانَ لها عظيم الأثر على حبي للكتابة وميولي لاكتشاف عوالمِ الأدب والفلسفة، والفضل يرجع لأخي الأكبر الذي وفّر لي الكتب والمراجع في مرحلة البكالوريا وكلّ ما أحتاجه، أضف إلى ذلك تشجيعه لي بلا كللٍ ولا مللٍ .كان بمثابةِ موجهي ومعلّمي ومؤطري . كلما كتبتُ نصّا بالفرنسية أو مقالة فلسفية إلاّ وصححهما. وبعد التصحيح يثني على ما كتبته ويقوّم و يُشجع.

أما الأساتذة الذين درّسوني في البكالوريا فتشجيعهم كان محركاً يدفع بعجلاتِ الابداع إلى الأمام.

كتبتُ كلّ هذا لأقول إنّ التحفيز والتشجيع لا غنى عنهما إنْ كانت نيتُنا حقا هي أنْ نشدّ بأيدي المتعلمين لنُوصلهم إلى برّ الإبداع الفسيح ولأقول أيضا إنّ مُجتمعنا بحاجة إلى علماء في العلوم الحقّة ولمفكرين وأدباء وفلاسفة حقيقيين يُشيّدون صرح ثورةٍ صناعية وفكرية. العلوم كلها ضرورية لنهضة المجتمع وتقدمه، وإلاّ فإن هذه النهضة لن تكون إلاّ سراباً يحسبه الظمآنُ ماءً. قبل تشييد المصانع والمباني، نريد تشييد الإنسان وتهذيب السلوك ، إذْ إنّ العلم و المعرفة بلا ضمير خرابٌ وهلاكٌ. ونختمُ بمقولة المفكر مالك ابن نبي " لاَ يُقاسُ غنى المجتمع بكمية ما يملكُ من أشياء بل بمقدار ما فيه من أفكار"... 



في نفس الركن