Quantcast
2021 ديسمبر 10 - تم تعديله في [التاريخ]

إلى أن يدرك الغرب أن أمنه وسلامته في أمن وسلامة الجنوب والشمال والشرق


العلم الإلكترونية - بقلم عبد الله البقالي

تواصل تداعيات جائحة كورونا في إسقاط أوراق النظام العالمي السائد، كاشفة بذلك عن حقائق ومعطيات تؤشر على تشكيل جديد لهذا النظام العالمي، الذي أخضعته لحد الآن القوى العظمى إلى معايير التحكم في الاقتصاد وإخضاع القرارات السياسية والاستراتيجية الحاسمة إلى اعتبارات النفوذ الاقتصادي وإلى منسوب القوة.

فلقد تسببت الداعيات المتواصلة إلى حد اليوم في فرض إعادة النظر في العديد من الحقائق، التي كان يسود الاعتقاد أنها أضحت نهائية وحاسمة، ويجب أن تخضع لها العلاقات الدولية السائدة، وإلى مراجعة العديد من المفاهيم التي كانت تؤطر هذه العلاقات.

فقد أكدت التداعيات المترتبة عن الوباء حاليا أن قوى عظمى كانت تضرب لها الحسابات وتفرض هيبة ، وحتى خوفا لدى العديد من دول العالم، وكانت تمسك بالقرارات الدولية المنظمة والمؤطرة للعلاقات الدولية، وكانت تقبض بأنفاس النظام الاقتصادي العالمي من خلال امتلاكها لكبريات الشركات الاقتصادية فوق كوكب الأرض، وكانت حينما تصاب بنزلة البرد تتداعى لها باقي دول العالم بالزكام وارتفاع درجات حرارة الأجسام.

فلقد أكدت هذه التداعيات الخطيرة أن هذه الدول التي تمثل القوى العظمى لم تعد تأثيراتها في النظام العالمي بالشكل وبالحجم وبالمنسوب الذي كانت عليه من قبل، ذلك أنها من جهة وقفت بكل ما تختزن من عوامل قوة حقيقية على المستويات العلمية والتقنية والفنية والمالية، وليس فقط في القضاء على هذا الفيروس الخطير، حيث فشلت في جهودها العلمية والمخبرية التي بذلتها لحد اليوم في القضاء عليه ، وهي التي كانت، و قد تكون لاتزال تفعل ذلك ، تروج لقوتها العلمية والعسكرية والنووية، القادرة على تدمير العالم في رمشة عين، ولكنها الأخطر من ذلك عجزت لحد اليوم عن التوصل إلى الحقيقة العلمية الكاملة والنهائية لهذا الفيروس، و بذلك فإنها فشلت في فهمه لتتمكن من التصدي إليه والقضاء عليه.

في ضوء ذلك فإن المفهوم التقليدي للتعاطي مع النظام العالمي الذي ساد لفترات وعقود طويلة، والذي كان يرتكز على عوامل امتلاك القوة لم يعد نافعا ولا مجديا لأي كان، بما في ذلك للدول العظمى. وأن تداعيات الجائحة فرضت مفهوما جديدا للعولمة وتشكلا مغايرا للنظام العالمي الذي بدأت معالمه في التجلي، و يتأسس على تجسيد مقاربة جديدة لمفهوم الانتماء إلى العالم تكون فيها البشرية جمعاء معنية بما يجري في العالم، على أساس قيم التضامن والتآزر والتكامل والشراكة سواء فيما يتعلق باتخاذ القرارات أو من خلال الحق من الاستفادة المتساوية من الثراء والغنى الذي توفره الطبيعة، وتفرزه مختلف أشكال الفلاحة والصناعة و الخدمات.

وفي الحقيقة فإن هذا المفهوم يواجه حاليا امتحانا عسيرا وخطيرا يزيد من نقمة السخط و الغضب على نظام عالمي ظالم جدا حد القسوة الشديدة، ففي الوقت الذي تواجه فيه البشرية ظروفا صعبة وتحديات خطيرة مرتبطة باستمرار الفيروس في الوجود ، وفي الظروف التي تؤكد أن هذا الفيروس يمتلك قوة خارقة ، وتكاد تكون غير مفهومة على التحول وعلى التوالد والتناسل، إلى درجة يمكن أن نتحدث فيها حاليا عما يمكن أن نسميه ب(أجيال من فيروس كورونا)، وما يترتب عن ذلك من فتك بآلاف الأرواح من البشر الأبرياء ، ومن خسائر فادحة في الاقتصاد، وفي الوقت الذي تؤكد فيه الحقائق العلمية الظرفية أن لا حل لمواجهة الفيروس، أو على الأقل لمحاصرته والتخفيف من تداعياته على صحة الإنسان وعلى الاقتصاد ، سوى السعي بكل قوة إلى تعميم اللقاحات ليستفيد منها أكبر عدد من البشر، فإن منظمة الصحة العالمية تكشف عن حقائق صادمة جدا تعري منطق اللاعدالة الذي يضمر في أعماقه نزعات الأنانية والشوفينية والعرقية والكبرياء، حيث صرحت هذه المنظمة أن 89 بالمائة من اللقاحات المصنعة والمسوقة لحد اليوم ذهبت إلى الدول العشرين، وهي الدول الاقتصادية العظمى. وبذلك فإن شعوبها استحوذت تقريبا على جميع الكميات المصنعة من مختلف أنواع اللقاحات ، إلى حد التخمة ، حيث لاحظنا في كثير من هذه الدول تنامي حركات احتجاجية رافضة للتطعيم مرجعة امتناعها عن تلقي الجرعات المناسبة من هذه اللقاحات إلى اعتبارات تقترب من مفاهيم التدجيل والشعوذة. في حين تكشف منظمة الصحة العالمية أن باقي شعوب العالم في القارات الخمس استفادت بنسبة تقل عن 10 بالمائة من اللقاحات. والمعطى الأكثر ذهولا واستغرابا ويدعو إلى القرف من هذا السلوك الانتهازي والأناني لبعض الدول المصنعة لهذا اللقاحات أنها تصر على تكديس أكثر من 100 مليون جرعة من اللقاحات المضادة لفيروس كورونا، وإن هذه الكمية، و أمام انعدام الحاجة إليها في الظروف الراهنة داخل الدول التي تختزنها، فإنها ستتعرض في المدى القريب إلى التلف والضياع بعد انتهاء صلاحيتها التي أضحت قريبة جدا. وهكذا فإنه هناك من يخضع هذه العملية، ذات العمق الإنساني في أصلها، إلى المنطق التجاري المتوحش، و الذي يفرض على المنتج إتلاف المحصول والمنتوج لضمان تحقيق الأرباح و الحفاظ على المصالح.

ومن جهة أخرى، يؤكد الخبراء المتخصصون أن الكلفة الإجمالية لتحقيق تعميم شامل للقاحات لتشمل جميع سكان العالم لا تتجاوز خمسين مليار دولار، وهو مبلغ يقل بنسبة النصف عما حققته شركة اقتصادية غربية واحدة من مكاسب وأرباح خلال المدة التي عمر فيها الوباء في العالم، مستغلة المآسي المترتبة عن الجائحة والتي حولتها إلى أرباح مالية طائلة.

المعادلة الصعبة التي تفرض مراجعة عميقة وشاملة لهذه المقاربة الأنانية الفاسدة ، تكمن في أن القضاء على الفيروس يتوقف على تحقيق مناعة جماعية ، بما يشدد الخناق على الفيروس و يخنق الممرات التي يسلكها . وما دامت هذه المناعة لم تتحقق فإن الفيروس سيظل يمارس نشاطه المعتاد وبوتيرة قد تكون أكثر سرعة وأكثر قدرة على الفتك والدمار في الدول العظمى نفسها، لأن قوة نظامها الاقتصادي تتجسد في قدرة اقتصادها على الانفتاح على الأسواق العالمية، وبالتالي على هذا الغرب الأناني المريض أن يقتنع بالحقيقة الجديدة التي أفرزتها التداعيات وفرصتها على الجميع، والتي تؤكد أن سلامة الفرد في أية نقطة من العالم تتوقف على سلامة الآخرين بغض النظر عن أصولهم وعرقهم وجغرافيتهم وديانتهم، وبذلك فإن سلامة الغرب رهينة بسلامة وعافية الشرق والجنوب والشمال.

وإلى أن يدركوا و يستوعبوا هذه الحقيقة جيدا، فإن الفيروس سيستمر في الوجود و سيواصل ممارسة نشاطه بحيوية، مستغلا هذا الخلل القيمي في السلوك البشري ومنتهزا أنانية البعض في احتكار الحياة لوحده.
 

              

















MyMeteo



Facebook
YouTube
Newsletter
Rss

الاشتراك بالرسالة الاخبارية
أدخل بريدك الإلكتروني للتوصل بآخر الأخبار