Quantcast
2025 أكتوبر 11 - تم تعديله في [التاريخ]

الخطاب الملكي الذي أوجد للجميع ضالته


العلم الإلكترونية - بقلم هشام الدرايدي 
 
جاء الخطاب الملكي السامي في افتتاح السنة التشريعية الأخيرة للبرلمان في لحظة دقيقة من عمر التجربة السياسية المغربية، حيث تزامن مع حالة احتقان اجتماعي وشبابي غير مسبوقة، قادها جيل جديد من المغاربة، وجد في الفضاء الرقمي منبرا للتعبير عن غضبه ومطالبه ثم نقل ذلك إلى الشارع العام وهو محمل بعدد من التجارب النضالية لمختلف المؤسسات السياسية والمدنية التي لجأت إلى الشوارع في الكثير من المناسبات، وراكمها الشباب واختمرها في العالم الافتراضي. 
 
وفي الوقت الذي كانت فيه البلاد تعيش نقاشا واسعا ومحتدما حول الأداء الحكومي وفعالية المؤسسات السياسية من خلال حراك الجيل الجديد الذي رفع مطالب يمكن أن نقول عنها مطالب كل الأجيال التي سبقته، جاء الخطاب الملكي ليعيد التوازن إلى المشهد السياسي ، ويضع النقاط على الحروف، بخطاب قصير في مدته، لكنه عميق في مضامينه، وواضح في رسائله، ومؤسساتي في جوهره.
 
ورغم أن الخطاب الملكي في ظاهره موجه لنواب الأمة، إلا أنه كان واضحا منذ اللحظات الأولى أنه موجه إلى الجميع، دون استثناء، فهو لم يكن خطابا سياسيا موجهاً لحكومة أو حزب بعينه، أو شعبيا كما انتظره البعض ليناقش آخر الأحداث، بل كان توجيها مؤسساتيا يذكّر كل فاعل بدوره ومسؤوليته، وكل حرف فيه أو كلمة، حبلى بمعان دقيقة وتوجيهات واضحة وحاسمة، حيث دعا الملك من خلاله البرلمانيين والأحزاب والمجالس الترابية ووسائل الإعلام والمجتمع المدني إلى الاضطلاع بمسؤوليتهم في تأطير المواطنين والتواصل معهم حول حقوقهم وحرياتهم، مؤكدا أن هذه المهمة ليست من اختصاص الحكومة وحدها فقط، بل هي واجب وطني جماعي، وهنا نستقرأ توجيها واضحا للطبقة السياسية التي فقدت في السنوات الأخيرة جزءا كبيرا من رصيد الثقة الشعبي، بسبب غيابها عن الميدان وانشغالها بحسابات انتخابية ضيقة، كما نستقرأ أن الحقوق والحريات لها ضوابط وشروط وقوانين تلزم المواطنين والسلطات العمومية في آن واحد.
 
كما أن الخطاب أعاد الاعتبار لمفهوم الجدية والمسؤولية في العمل السياسي والمؤسساتي، بحيث أن السنة التشريعية الأخيرة ليست سنة للانتظار أو للمزايدات، بل هي فرصة لتدارك ما فات، وتسريع وتيرة الإنجاز، وتنفيذ البرامج المفتوحة، قبل تسليم المشعل للحكومة المقبلة، مشددا في السياق ذاته على أن المشاريع الكبرى والتنموية ليست رهينة بمدة حكومة أو ولاية برلمانية، لأنها مشاريع دولة، تتجاوز الزمن السياسي القصير نحو أفق استراتيجي أوسع، ومن بينها أوراش الإصلاح الكبرى لمنظومات التعليم والصحة والشغل وغيرها، وهذا ما يجعل من الخطاب الملكي إعلانا ضمنيا عن مرحلة جديدة في التفكير العمومي، قائمة على استمرارية الرؤية، وتكامل الأدوار، وترسيخ ثقافة النتائج بدل ثقافة الوعد، كما هو جواب ضمني على كل مطالب الشارع المغربي التي رفعت في السابق، وألح على تجديد رفعها الشباب في الأيام الأخيرة.
 
وفي بعده التنموي، أكد الخطاب أن العدالة الاجتماعية والمجالية ليست مجرد شعار ظرفي، بل خيار استراتيجي تبنته الدولة المغربية، ويجب أن يحكم السياسات العمومية على كل المستويات، ولهذا الغرض دعا الملك بوضوح في خطابه إلى إعادة النظر في التنمية الترابية للمناطق الجبلية والواحات، التي تمثل 30 في المائة من مساحة البلاد، وإلى تفعيل القانون والمخطط الوطني للساحل، وتوسيع تجربة المراكز القروية الناشئة التي تسهم في تقريب الخدمات وفرص الشغل من المواطنين في العالم القروي، فهذه التوجيهات لا تندرج فقط في سياق العدالة المجالية، بل تمثل ترجمة عملية لمفهوم الدولة الاجتماعية التي هندس لها جلالته في النموذج التنموي الجديد ويسعى المغرب لترسيخها.
 
كما حمل الخطاب بعدا إصلاحيا عميقا في الدعوة إلى تغيير العقليات واعتماد ثقافة النتائج والنجاعة في الاستثمار العمومي، والقطع مع الممارسات التي تهدر الوقت والجهد والإمكانات، وهنا تبرز رؤية جلالته في طرق الإصلاح التي لم تعد ممكنة بعقلية التدبير الكلاسيكي، بل يتطلب جرأة في التفكير، وانفتاحا على التكنولوجيا الحديثة، واستنادا إلى معطيات ميدانية دقيقة، وهي دعوة صريحة من قادة البلاد إلى مراجعة طريقة اشتغال الإدارة، وتثمين الكفاءات، وربط المسؤولية بالمحاسبة.
 
الخطاب، في عمقه، كان أيضا رسالة طمأنة للشارع المغربي الذي تابع تطورات الأحداث الأخيرة بقلق واهتمام، حيث قال الملك، بشكل غير مباشر، إن صوت المواطنين مسموع، وإن الإصلاح مسار مستمر لا يرتبط بحسابات انتخابية أو ظرفية، وفي الآن ذاته، كان الخطاب بمثابة تنبيه للنخب السياسية، بأن الزمن لم يعد يتسع للشعارات والمناورات، وأن المطلوب اليوم هو العمل الملموس في الميدان، بروح الوطنية والمسؤولية.
 
ولم يكن اختيار جلالته لآخر آية من سورة الزلزلة اختيارا عرضيا أو لمجرد التأثيث البلاغي للخطاب، بل كان إشارة بليغة ودعوة صريحة إلى ربط المسؤولية بالمحاسبة، وترسيخ مبدأ أن العمل كان صغيرا أو كبيرا، لا يضيع عند الله ولا عند الوطن، وأن كل من يتولى مسؤولية عامة سيسأل عنها.

              

















MyMeteo




Facebook
YouTube
Newsletter
Rss

الاشتراك بالرسالة الاخبارية
أدخل بريدك الإلكتروني للتوصل بآخر الأخبار