Quantcast
2025 غشت 4 - تم تعديله في [التاريخ]

الرباط بعيون مغتربة..

أسطورة بين الثابت والمتحوّل وأنوار البقع السوداء


الرباط بعيون مغتربة..
العلم - بقلم زكية لعروسي
 
لم تكن العودة إلى الرباط هذا الصيف مجرد نزهة عابرة أو انحناءة حنين في درب الذاكرة. لم أعد كزائرة تحمل دفء العائلة أو فضول السائح، بل كمن يعود إلى مدينته متسلّحا بالمسافة والوعي، يحمل في قلبه صورتها كما كانت، ويقابلها اليوم بسؤال جريء: ماذا تغيّر؟ ومن تغيّر؟

عدت كما يعود المغترب إلى ذاته، لا ليسترجع ما مضى، بل ليفتش في حاضر المدينة عن وجهها المستحق. حملت معي ذاكرة عشرينية مبلّلة بالحلم، وعينا جديدة لا تساوم في رؤيتها، عين تلتقط الجمال وسط الضجيج، وتفرز الحقيقة من الزينة، كما يفرز الناقد جوهر الشعر من زخرف القوافي. وما وجدته لم يكن قليلا:

الرباط، المدينة التي عرفتها نائمة على مجدها، تنهض اليوم من رماد الاعتياد. لم تعد مجرّد عاصمة إدارية تقف عند حدود الوظيفة، بل مشروعا حضريا متكاملا، تتقاطع فيه الهندسة مع الهوية، والضوء مع البصيرة.

من الأزقة الضيقة للمدينة العتيقة، إلى جسور أبي رقراق الرشيقة، ومن رصانة الطرام إلى نعومة المساحات الخضراء… المدينة تتكلم بلغة جديدة، بلا ضجيج، لكن بإصرار.

تحوّل لم يأت صدفة، بل جاء من أعلى: من سياسة مولوية بعيدة المدى، صلبة في رؤيتها، ذكية في تنفيذها؛ سياسة لا تزين المظاهر، بل تحفر في العمق؛ لا تكتفي بالشكل، بل تصوغ الروح. فكيف لا نحتفي اليوم بملك جعل من الجمال أفقا وطنيا؟ من التحديث مسارا، ومن التخطيط الحضري رافعة للكرامة؟

أليس من حق المواطن أن يفخر حين يرى مدينته تشبه الحلم؟

هنيئا للمغرب بقيادة تصنع المدن كما تصنع القصائد: ببصيرة، وبصبر، وبإيمان بالجمال.

ومع كل الألق الذي يرصّع الرباط وهي تنهض بثقة، ثمة ظلّ ثقيل لا يمكن إنكاره… ظلّ يمتدّ خفيفا كخيانة قديمة، من شارع علاّل بنعبد الله، ويتمدّد إلى جزء من شارعيْ محمد الخامس والحسن الثاني، فيغلف بعضا من الذاكرة الحضرية بشيء من الأسى، كما يغلف الغبار مرآة عتيقة. أين غابت الأيدي التي  تنفض هذا الغبار؟

شوارع كانت ذات زمن نبض العاصمة، فإذا بها اليوم تبدو كصفحات من كتاب ترك مفتوحا، نسيه الزمن على رفّ الإهمال. أرصفة متآكلة تتنهّد تحت أقدام المارّة، واجهات تئنّ من ثقل هذا الظل، وبقع سوداء على الأرصفة كندوب جلدية في جسد كان يوما مهيبا. فمن ينصت لصرخة هذه الأرصفة؟

حاولت الاقتراب، فلم أعرف سر هذه البقع، وزادتها ظلال البول الجافّ عند "بُّوتْرْ الشوارع" بهاء، لتصرخ هذه الشوارع صامتة بغياب العناية. في مدينة تتجمّل أطرافها (حي الرياض، وحيّ لوغونجغي) كعرائس زفاف، يترك قلبها لينزف بلا قمامات، وممرات عبور شبه منفية في منتصف الطريق.

هل يعقل أن نلمّع الواجهة وننسى القلب؟

هل المدينة عروس تزيّن يوما وتنسى بعدها؟

ومن قلب هذا القلب المهمل، تنهض "عمارة السعادة". إسم على غير مسمّى، ساخر من واقعه، وشاهق لا يشبه محيطه، كأنها صرخة مكسورة وسط جوقة صمت. تحفة معمارية تتنفس بصعوبة وسط أكوام الإهمال، وهي بهندسة فريدة، كأن المبنى يقف شاهدا على ما يمكن أن يكون حين يمنح الجمال مكانته.

لكنّ العشوائية تخنقه، والروائح تغتاله، والنسيان يمرّ عليه كلّ صباح كالمارة

أليست هذه العمارة حكاية حضرية مهملة؟

قيل إنها "ديال الحبوس"، وكأن الانتماء الإداري يبرر التخلي الجمالي! لكن الحقيقة أوضح من اللافتة: هذه العمارة ليست مجرد مبنى، بل قصيدة حضرية متروكة في دفتر المدينة، تنتظر قارئا يليق بها. إنها لا تحتاج إلى إعادة بناء، بل إلى إعادة اعتبار. فالجمال لا يموت، لكنه يغتال بالصمت... وينسى حين نصدّق أن البريق لا يصدر إلا من جديد.

ألسنا بحاجة إلى من يعيد للقديم مكانته، كما نعلي من شأن الجديد؟

لقد آن الأوان لإعادة دمج هذه التحف المنسية في الرؤية الكبرى للعاصمة. شارع الحسن الثاني وجزء من شارع محمد الخامس مؤهلان لأن يتحولا من ممرات منسية إلى محور حضاري نابض، و"عمارة السعادة" إلى رمز معماري يحتضن ذاكرة المدينة ويصالحها مع طموحها.

الرباط لا ينقصها الجديد… بل من يوقظ القديم، ويعيد إليه كرامته.

لا ينقصها البناء… بل من يعترف بما بني أصلا بجمال، وينقذه من قبضة الفوضى والنسيان.

أليس من العدل أن نقول: "الجديد له جدته والقديم ما تفرّط فيه"؟

التجميل الحقيقي لا يقاس بصباغة الواجهة ونسيان الأطراف - "الصابون كمل وبقاو أطرافه" - ولا بعدد الساحات أو الأبراج، بل بقدرتنا على ترميم الذاكرة، وإنقاذ الجمال حين يوشك أن ينسى. هو توازن دقيق بين أن نبني للمستقبل، دون أن نطمر الماضي.

ورغم هذه المفارقات، تبقى الرباط مدينة متفرّدة… مدينة اختارت أن تراهن على الغد ففازت، وأن تبنى على الهوية لا على الفراغ.

ولم يكن لهذا أن يحدث لولا رؤية ملكية راسخة، تعرف أن العمارة ليست زخرفا، بل لغة حضارية، وأن المدن ليست حجرا، بل روحا يجب أن تصان.

أليست المدينة انعكاسا لكرامة ساكنيها؟

الرباط، كما نراها اليوم، لا تشبه شيئا

إنها أسطورة الثابت والمتحوّل. مدينة تنحت مستقبلها بنصل الحاضر، وتضيء طريقها بأنوار لم تطفئها حتى البقع السوداء.

هنيئا لمغرب يليق به هذا الجمال، وهنيئا لمدينة تنام على ضفاف الشعر، وتستيقظ على هندسة الحلم.

              

















MyMeteo




Facebook
YouTube
Newsletter
Rss

الاشتراك بالرسالة الاخبارية
أدخل بريدك الإلكتروني للتوصل بآخر الأخبار