Quantcast
2025 ديسمبر 10 - تم تعديله في [التاريخ]

الشعر يكتب تاريخ الملوك.. قراءة نقدية في كتاب "ملك القلوب-الحسن الثاني" للدكتور مانع سعيد العتيبة


الشعر يكتب تاريخ الملوك.. قراءة نقدية في كتاب "ملك القلوب-الحسن الثاني" للدكتور مانع سعيد العتيبة
العلم - زينب بومسهولي

لم يأت كتاب "ملك القلوب-الحسن الثاني" ليضيف مجرد عمل أدبي جديد للمكتبة العربية؛ بل ليعيد صياغة علاقة إنسانية، سياسية وثقافية جمعت بين شاعر إماراتي وملك مغربي، علاقة نسجت خيوطها من الدبلوماسية أولاً، ومن الشعر لاحقاً، حتى أصبحت جزءاً من الذاكرة العربية الحديثة. فالكتاب، بخلاف ما قد يوحي به عنوانه، ليس سيرة سياسية تقليدية ولا توثيقاً تاريخياً مباشراً، بل هو ديوان شعري واسع يسبقه تمهيد نثري مطوّل يشكّل العتبة الأساسية لفهم القصائد وموقعها في التجربة الإنسانية للكاتب معالي الدكتور مانع سعيد العتيبة.

منذ الصفحات الأولى، يضعنا المؤلف داخل سياق زمني يبدأ سنة 1961، لحظة اعتلاء الحسن الثاني العرش. لم يكن العتيبة حينها سوى طالب ثانوي يتابع المشهد العربي وهو يعرف تحولات كبرى، ومع ذلك كانت صورة الملك المغربي تخترق وعيه بقوة. يكتب عن تلك المرحلة بعفوية، لكن القارئ يشعر بأنه يؤسس لشيء أكبر: علاقة إعجاب أولية ستتحول لاحقاً إلى صداقة، ثم إلى قصائد، ثم إلى جزء من حياة شاعر وذاكرة بلد. وأهم ما تكشفه المقدمة أنّ العتيبة لم يدخل على الحسن الثاني بصفة شاعر، كما قد يظن القارئ من عنوان الكتاب، بل دخل عليه من بوابة الدولة.

ففي ذروة مساره الحكومي وزيراً للبترول والثروة المعدنية في الإمارات، كلّفه الشيخ زايد بمهام دبلوماسية حساسة، كان أبرزها جهود الوساطة في ملف الصحراء المغربية، حيث حمل صوت الإمارات في الدفاع عن الموقف المغربي ودعم جهود الاستقرار. كما كُلّف بوساطة ثانية بين المغرب والهند بخصوص موضوع الفوسفات، في سياق إقليمي كان يحتاج إلى صوت عربي عاقل. هذه المرحلة مهمة للغاية لأنها تجعل القارئ يدرك أن الثقة بين الملك والعتيبة لم تولد من قصيدة، بل من موقف سياسي، من مسؤولية، ومن قدرة على إدارة الملفات الشائكة بصوت واضح وموقف ثابت. هنا تبدأ العلاقة في أخذ منحى مختلف. فالملك الحسن الثاني، كما يروي العتيبة، قدّر فيه صراحة الموقف قبل تقديره جمال الشعر. ومع مرور الزمن، اكتشف فيه شاعراً ذا حسّ مرهف، فصار يطلب منه قراءة ما يكتب، ويستمع إليه بإصغاء ملكٍ يعرف قيمة الكلمة، وقيمة الرجال الذين يقولونها بصدق. ومن نقطة السياسة إلى نقطة الوجدان، تتّسع مساحة القرب.

في سنة 1990، وبعد مرحلة طويلة من الانشغال الحكومي، قرر العتيبة الاستثمار داخل المغرب، لا باعتباره مشروعاً اقتصادياً فقط، بل باعتباره امتداداً لعلاقته بالملك والبلد. وما إن عرض الفكرة على الحسن الثاني، حتى وجد ترحيباً ملكياً كبيراً، وتوجيهاً واضحاً بتقديم التسهيلات اللازمة، وخاصة في المشاريع الفندقية والسياحية. هذا التفصيل الدقيق يؤكد على أن العلاقة هنا لم تعد علاقة شاعر وملك، بل أصبحت علاقة رجلين يجمعهما احترام وثقة ورؤية لمستقبل عربي منفتح، يرى المغرب جزءاً أساسياً منه. وبعد هذا التقارب العملي المزدان بفكرة والممتد إلى متابعة المشاريع في المغرب، ستعرف العلاقة بين الرجلين لحظة مفصلية عام 1992، حين قام الملك الحسن الثاني بزيارة رسمية إلى دولة الإمارات العربية المتحدة يوم 24 أكتوبر.

وفي خضم برنامج بروتوكولي مكثّف، اختار الملك القيام بلفتة إنسانية لافتة، زيارة خاصة إلى منزل مانع سعيد العتيبة في أبوظبي يوم 27 أكتوبر من السنة نفسها. كانت تلك الخطوة أبعد ما تكون عن المجاملة الدبلوماسية، اذ هي اعتراف صريح بمكانة العتيبة في قلب الملك، وبالعلاقة التي أصبحت تتجاوز حدود السياسة لتلامس صدق الودّ الإنساني. ووصف العتيبة هذه الزيارة بأنها من أسعد لحظات حياته، لأنها كانت إعلاناً صامتاً عن انتقال العلاقة من مستوى التعاون السياسي والاستثماري، إلى مستوى القرب الإنساني الذي يصعب تدوينه في محاضر الاجتماعات، ويظل محفوظاً فقط في الذاكرة، ثم في الشعر. ومن هنا يبدأ الديوان في أخذ شكله الطبيعي، حيث تصبح القصائد امتداداً لهذه الرحلة الشخصية بين ملك ترك أثرا في قلب شاعرٍ يجيد تحويل المواقف لأبيات، واللحظات العابرة لنصوصٍ تحفظ ما لا تحفظه الوثائق الرسمية.

ومع ذلك، تبقى هذه المقدمة —على طولها وغناها— مجرّد إطار لعمل مختلف تماماً: ديوان شعري خصّصه العتيبة للحسن الثاني، يضم قصائد كتبت في الحياة والغياب، في الحضور والذكرى، في الوفاء والفقد. وهنا تكمن قوة الكتاب: المقدمة تشرح، لكن الشعر يروي، يخلّد، يكتب التاريخ بشكل آخر. بمجرد الانتقال إلى القصائد، يكتشف القارئ أن الشعر ليس تابعاً للمقدّمة، بل امتداداً طبيعياً لها. فكل بيت يبدو كأنه إعادة صياغة للذكريات، وكل صورة كأنها امتداد للحظة سردية وجدانية. يكتب العتيبة عن اللقاءات، وعن صداقة امتدت من السياسة إلى البيت، وعن اللحظات التي شعر فيها بأن الحسن الثاني أقرب إليه من بروتوكول الممالك. وتتحول القصائد إلى سجلّ لعلاقة إنسانية واثقة، تُروى مرة بلسان الشاعر، ومرة بلسان الحنين. وتكشف القراءة الشعرية للديوان أن مانع سعيد العتيبة يكتب بلغة تقوم على التوازن بين البساطة والعمق، وبين وضوح العبارة ورسوخ المعنى. فهو لا يميل إلى الزخرفة المفرطة، ولا إلى التعقيد، بل يختار إيقاعاً هادئاً ينسجم مع طبيعة الموضوع، ويمنح القصائد قوة نابعة من صدق التجربة أكثر مما هي نابعة من قوة اللفظ. أما الصور الشعرية في عمله، فليست بنيات تخييلية معزولة، بل أدوات لبناء الذاكرة؛ إذ يعتمدها الشاعر لالتقاط اللحظات الإنسانية والسياسية التي عاشها مع الملك، وتحويلها إلى صور تجمع بين الرمزية والوضوح، وبين الشعور والفكرة، دون مبالغة أو افتعال. وتتسم اللغة في الديوان بقدر كبير من الانضباط، ما يجعل القصائد قريبة من القارئ، ويمنحها طابعاً توثيقياً نابعاً من التجربة قبل أن يكون نابعاً من الخيال.

بهذا الأسلوب، يصبح الشعر عند العتيبة امتداداً للنبرة الهادئة في المقدّمة، وشكلاً آخر للتعبير عن العلاقة التي تشكلت عبر سنوات من المواقف الإنسانية والسياسية. وتبلغ التجربة ذروتها في قصائد الرثاء، حيث تصبح اللغة أكثر هدوءاً وعمقاً، وتتحول إلى وسيلة لقول ما لا تقوله السياسة. فالحزن على الحسن الثاني ليس حزناً على ملك، بل على رجل كان جزءاً من حياة الشاعر لعقود. ويتكرر هذا الشعور عند رحيل الشيخ زايد، حين يصف العتيبة نفسه بأنه “يُتّم مرتين”، في جملة تختصر حجم الفقد الذي هزّ تجربته الشعرية والسياسية والإنسانية. ومع اعتلاء الملك محمد السادس العرش، يتحول الديوان من رثاء إلى احتفاء هادئ. يرى العتيبة في محمد السادس امتداداً لصفاء الحكمة التي عرفها في والده، ويكتب عنه بوضوح وهدوء، ويلاحظ فيه القدرة على الجمع بين الاستمرارية والتجديد. وهكذا يصبح الكتاب شهادة على انتقال سلس للسلطة في المغرب، بعيون شاعر عرف الملكين عن قرب، وقرأ في كل واحد منهما ملامح مرحلة. وبهذا يمكننا القول أن «ملك القلوب» عمل يتداخل فيه الشعري بالإنساني، والسياسي بالوجداني، وتتحوّل فيه ذاكرة شاعر إلى جسر يُعيد رسم صورة ملك عاش في قلبه قبل أن يرحل بجسده. لقد منح العتيبة لعلاقته بالحسن الثاني لغة تحفظ التفاصيل التي لا تلتقطها التقارير ولا يدوّنها التاريخ الرسمي، وجعل من القصائد شكلاً آخر لقول الحقيقة، ومن الشعر وسيلة لإبقاء الودّ قائماً بين بلدين جمعتهما رؤية واحدة.

إن الكتاب، بجمعه بين المقدّمة الهادئة والديوان الواسع، يقدم شهادة صادقة على زمن، وتحية شعرية لملكٍ ظل تأثيره ممتداً في السياسة والذاكرة على السواء. وهو بذلك يذكّر القارئ بأن بعض العلاقات لا تُكتب بالوثائق، بل تُكتب بما يبقى في القلب، وبما يبقى في الشعر.

              
















MyMeteo




Facebook
YouTube
Newsletter
Rss

الاشتراك بالرسالة الاخبارية
أدخل بريدك الإلكتروني للتوصل بآخر الأخبار