2025 شتنبر 11 - تم تعديله في [التاريخ]

العبادة الحقيقية.. من جدران المسجد إلى فضاءات الحياة



*بقلم //  ذ. محمد بوفتاس*
 
ما زال كثير من الناس يعتقدون أن العبادة تنحصر في أداء الشعائر داخل جدران المسجد، وكأن العلاقة مع الله لا تبدأ إلا لحظة تكبيرة الإحرام وتنتهي مع السلام الأخير. هذا الفهم الضيق اختزل الدين في طقوس محدودة، بينما النصوص والرسالات السماوية كلها تؤكد أن العبادة في جوهرها نمط حياة، وسلوك أخلاقي يُمارَس في تفاصيل اليومي: في السوق، في العمل، في البيت، وفي الشارع.
 
حين نفتح أعيننا على واقعنا، نجد مفارقة لافتة: في مدن كثيرة من العالم، تظل أبواب الكنائس مشرعة طوال النهار، تستقبل المؤمن وغير المؤمن، العابر أو الباحث عن لحظة سكينة. أما المساجد عندنا، فلا تفتح إلا في أوقات الصلاة، وكأنها أماكن وظيفية مرتبطة بالطقس فقط. والأسوأ أن بعضها تحوّل، بفعل خطاب متشدد، إلى فضاءات لنشر أفكار التطرف وتكريس الانغلاق، عوض أن تكون ساحات رحبة للتسامح وتربية النفوس على قيم الخير.
 
وهنا يطرح السؤال نفسه: ما الغرض من الدين؟ هل هو مجرد أداء طقوس شكلية تُفرغ العبادة من مكنونها الأصلي، أم أنه تربية على قيم تُيسر حياة الناس ومعاملاتهم اليومية؟ الجواب واضح في النصوص: الله مدح نبيه بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ}، أي أن المعيار ليس كثرة الركعات بل عظمة الأخلاق. كما لخّص الرسول ﷺ رسالته في قوله: "إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق".
 
وإذا رجعنا إلى الماضي القريب والبعيد، سنجد أن المساجد لم تكن أماكن عبادة فقط، بل فضاءات جامعة للعلم والفكر. في رحابها نشأت علوم التفسير والحديث والفقه، ومنها انطلقت دروس الأدب واللغة والفلسفة. كانت منابر للموعظة كما كانت ساحات للسجال الفكري والجدل السياسي، ومجالس للنقاش بين فقهاء وعلماء ومفكرين. بل إن المسجد النبوي نفسه في صدر الإسلام كان مركزًا للحياة العامة: مكانًا للتشاور السياسي، لتعليم الناشئة، ولحل مشكلات الناس. فكيف اختُزل هذا الإرث الغني اليوم في وظيفة ضيقة لا تتجاوز أداء الصلاة خمس مرات في اليوم؟
 
فما جدوى أن يمتلئ المسجد بالمصلين إذا كان السوق مكتظًا بالغشاشين والمحتكرين؟ وما قيمة الصيام إذا لم يمنع صاحبه من الكذب والاعتداء؟ وكيف نتحدث عن الدين ونحن نرى الظلم الاجتماعي يتفشى، والرشوة تتحكم في المعاملات، والأنانية تطغى على السلوك الجماعي؟
 
العبادة في جوهرها ليست انعزالًا عن المجتمع بل التزامًا بإصلاحه. التاجر الصادق في تجارته، الموظف الذي يخدم الناس بإخلاص، الجار الذي يحترم جاره، هؤلاء أقرب إلى معنى العبادة من الذي يقضي وقته كله في الشعائر ثم يخرج ليمارس الظلم والفساد.
 
الدين، إذن، ليس مجرد قناعة ميتافيزيقية أو إيمان غيبي جامد، بل ممارسة اجتماعية واقعية. قيمه لا تُختبر في المسجد وحده، بل في البيت والمدرسة والإدارة والشارع. المجتمعات الحية هي التي تنقل قيم العبادة من المحراب إلى فضاءات الحياة، وتحوّلها إلى ثقافة عامة يعيشها الجميع.
 
اليوم، نحن في أمس الحاجة إلى استعادة هذا المعنى العميق للمسجد. أن يكون منارة للتربية والعلم والنقاش، كما كان في الماضي، لا مجرد مكان للطقوس أو منبرًا للتشدد. المسجد ينبغي أن يعود فضاءً مفتوحًا، جامعًا لكل أفراد المجتمع، مصدر إشعاع للأخلاق والعدل، وساحة للحوار بدل أن يكون مجالًا للانغلاق.
 
فالعبادة الحقيقية لا تُقاس بعدد الركعات ولا بطول السجود، وإنما بما يتركه الإنسان من أثر طيب في محيطه. فالله يُعبد في الصدق كما يُعبد في الصلاة، ويُعبد في العدل كما يُعبد في الصوم. والإيمان الصادق هو الذي يُترجم إلى معاملات راقية، وسلوك مسؤول، ومجتمع متماسك قائم على الأخلاق.
 
ذ محمد بوفتاس - باحث في الدين والفكر والمجتمع




في نفس الركن