2022 ماي 19 - تم تعديله في [التاريخ]

"العلم" تحاور صاحب "السارد وتوأم الروح" حول منجزه النقدي المتــوَّج بجائزة الشيخ زايد

محمد الداهي.. أحفر بهذا الكتاب في المنطقة البينيَّة منذ كتاب "الشعرية" لأرسطو


العلم الإلكترونية - حاوره: عبد الناصر الكواي/ زهير العلالي

من بين ثلاثةِ آلاف مشارك، وبعدَ مراحل عديدة من التقويم وفق معايير محددة، والانتقاء الصارم، والتحكيم النزيه، جاءت البشرى يوم تاسع ماي الجاري، واستطاع كتاب: "السارد وتوأم الروح من التمثيل إلى الاصطناع"، للناقد والباحث الأكاديمي المغربي، الدكتور محمد الداهي، أن يفوز بجائزة الشيخ زايد العالمية للكتاب في دورتها السادسة عشرة، ضمن فرع الفنون والدراسات النقدية ماي 2022.

حاورته جريدة "العلم" - بعد تهنئته على منجزه- لتعرُّف مواطن قوةِ الكتاب المتوج، وتسليطِ مزيد من الأضواء عليه، لا سيما أن صاحبه يعد من النقاد والباحثين البارزين في العالم العربي، وسبق له أن أحرزَ جائزة المغرب الكبرى للكتاب عام 2006 عن كتابه "سيميائية الكلام الروائي"، وعلى جائزة كتارا للرواية العربية عام 2021 عن مشروعه "سلطة التلفظ في الخطاب الروائي العربي". وهو أستاذ وحدتي "السرد الحديث" و"سيمائيات السرد الأدبي" بكلية الآداب والعلوم الإنسانية في الرباط، ومنسق وحدة الدكتوراه "آداب وفنون متوسطية".

وقد نوّهتِ الهيئة العلمية بكتابه المتوج : "السارد وتوأم الروح من التمثيل إلى الاصطناع"، بمراعاة – من بين اعتبارات كثيرة- ما يلي: سلاسة العرض، ووضوح المفاهيم، ودقة التحليل، ومراجعه الحديثة والشاملة، وقراءته لأعمال سردية عربية قديمة وحديثة، حيث يسرد العلاقة المعقدة بين الكتابة والوجود والنص، وما يضمره في إطار تمثيل الذات الواقعية ونقلها إلى عالم الكتاب.

بعد تجديد التهنئة على تتويجكم، كيف تلقيتم خبر التتويج بجائزة الشيخ زايد العالمية للكتاب في دورتها السادسة عشرة؟

شكرا لكم على الحوار، أكيد أن الفوز بجائزة الشيخ زايد للكتاب، ليس وليد اللحظة، بل هو ثمرةُ جهد دامَ سنوات عديدة. حلت جائحة كورونا التي أفادتني- رغم مساوئها ومنغصاتها- بالرجوع إلى محرابي الشخصي، ومراجعة كثير من المشاريع -التي كانت شبه مكتملة- وتنقيحها وتحيينها. كانت هذه الفترة بالنسبة لي فرصة للاعتكاف على القراءة والتفرغ إلى مشاريعي الشخصية. ومن ثم توافر لدي الوقت الكافي لتصحيح كتاب "السارد توأم الروح من التمثيل إلى الاصطناع"، وإعادة قراءته مرات عديدة حرصاً على خلوه من الأخطاء المطبعية، ثم إتمام الكتاب الذي صدرَ أخيراً عن المركز الثقافي للكتاب: متعة الإخفاق المشروع التخييلي لعبد الله العروي.

يعد كتاب "السارد وتوأم الروح"، أول حفر في المنطقة البينيّة على المستوى العربي. في حين شغلت هذه المنطقة باحثين غربيين منهم (فيليب لوجون، وفيليب كاصبريني، وأرنو شميت، وفيليب فوريست)، بعد اكتشاف محكيات ذاتية كثيرة تثير التباسا في ازدواجية نوعها، وتلقيها المضاعف، بحكم تجاذبها بين الطرفين النقيضين (الروائي والسيرذاتي، التخييلي والواقعي)؛ أي أن القارئ يجد مصاعب في تحديد هويتها الجنسية بالنظر إلى تجاورها مع السيرة الذاتية (اليوميات الخاصة، والمذكرات، والأتوبورتريه، والاعترافات) أو بعدها عنها (الرواية، والسيرة الذاتية التخييلية) أو شغلها موضعا بينيَّا (التخييل الذاتيAutofiction ، السرد الذاتي Autonarration، التخريف الذاتي Autofabulation).

كانت هاته المنطقة بالنسبة لي، أحد الأسباب الداعية إلى تأليف الكتاب. كما حفزتني قراءة كتب فليب لوجون وجورج كوسدورف وفليب كاصبريني وفليب فوريست، والاحتكاك بهم في مؤتمرات وندوات دولية، على البحث في المنطقة البينيَّة العربية بأدوات ومفاهيم جديدة حرصا على إثبات أن العرب لا يقلون نبوغا عن أندادهم الغربيين، وعلى تأكيد موقعهم في النسق الثقافي الكوني. وهذا ما سعيت إليه مدافعا عن موقعي الثقافي بصفتي مثقفا من الضفة الأخرى، ومتفاديا تكريس "الهيمنة الثقافية الغربية" في التعامل مع تراثنا السردي الغني والرحب. وأشير هنا إلى دراستي "منزلة التخييل الذاتي في الثقافة العربية" التي نشرت في كتاب جماعي "تخوم التخييل الذاتي"، تحت إشراف أرنو جونو وإزابيل غريل، المنشورات الجامعية لليون، 2016.

كيف تفسرون بقاء الهوة سحيقة بين ملفوظات الواقع وملفوظات التخييل منذ أرسطو إلى العقود الأخيرة من الألفية الثانية؟

ظلت هوةٌ سحيقة تفصل ملفوظات الواقع عن ملفوظات التخييل منذ أرسطو إلى أن سعى باحثون خلال العقود الأخيرة، إلى ردمها بعد حصول تحولات فكرية ونظرية ومنهجية (نظرية التلفظ، التداولية، نظرية التلقي). انتبه أرسطو إلى عدم وجود فن يستخدم الحالة الشخصية، واكتفى بما يميز الشعر عن التاريخ من حيث التصوير (يصور الشعر ما يمكن أن يقع بطريقة رمزية، في حين ينقل التاريخ ما حدث من قبل) والدرجة (الشعر أسمى مقاما من التاريخ لأنه لا يروي الجزئي بل الكلي). أضحت المحكيات الشخصية-بمرور الوقت- مدرجة في المجال الإخباري أو التاريخي بذريعة انحسار أدبيَّتها، وابتذال محتوياتها.

أود –في هذا الصدد- أن أوضح أن مفهوم "المنطقة البينية"، يكتسي أهمية خاصة عند الباحثين في الغرب عكسَ أقرانهم العرب، حيث كان فيليب لوجون أول من انتبه إليها عندما حدد شروط الميثاق السيرذاتي عام 1975، مميزا بين السيرة الذاتية والأشكال المجاورة لها التي حصرها في عشرة وهي (السيرة، واليوميات، والمذكرات، والبورتريه، والفضاء السيرذاتي...)، ثم أضاف إليها ستة أنواع أخرى في كتابه (أنا أيضا) سنة 1986، مع تركه خانتين شاغرتين لأنه لم يستحضر وقتئذ مثالين مناسبين لهما، لتبلغ مع جيرار جنيت أكثر من ثلاثين شكلا استدركها في مؤلفه (التخييل والواقع) سنة 1991، على غرار (التخييل السيرذاتي، ثم التخييل الذاتي، والسيرة الذاتية المتباينة حكائيا، والسيرة الذاتية التخييلية...).

وهو الأمر الذي يضعنا أمام "قارة مجهولة"، تتطلب اكتشافَها بأدوات ومناهج جديدة. في المقابل، فقد اقتصر اهتمام الباحثين العرب على السيرة الذاتية الكلاسيكية التي تُعنى بتقليد النموذج أو المحال إليه (المترجم له)، وقلما اهتموا بما يقع في المنطقة البينيّة التي تُعد قارة مجهولة تتطلب منا أن نكتشفها بالأدوات والمناهج المناسبة.

على يمين الصورة الناقد والباحث الأكاديمي الدكتور محمد الداهي أثناء الحوار
كيف ساعد غنى الأدب العربي على استثمار هذه المفاهيم المنهجية الغربية في تطوير أشكال الكتابة عن الذات؟

يحفل الأدب العربي بمختلف هذه الأنواع والأجناس الأدبية بما فيها المحكيات الذاتية (Récits personnels) على تنوعها واختلافها وتعددها؛ وهو ما يدل على أن الأدب العربي- عكس ما يروجه الأدب الكولونيالي عنه- جزء من النسق الكوني، وبنية رمزية من بنيات التراث اللامادي العالمي. إن دور المثقفين والباحثين العرب هو إثبات ذلك باعتماد الأدلة الملموسة دون تحيز أو شطط أو انفعال.

هذا ما سعيتُ إليه في مشروعي اعتبارا من كتاب "شعرية السيرة الذهنية محاولة تأصيل" عام 1994 إلى كتاب "متعة الإخفاق في المشروع التخييلي لعبد الله العروي" عام 2022. ويشغل الكتاب "السارد وتوأم الروح من التمثيل إلى الاصطناع"، الصادرعام 2021 واسطة العقد، وحلقة مفصلية باعتماد منهجية مرنة تزاوج بين مكاسب الشعرية والسيميائيات الذاتية (ألاعيب التحقق/لعبة الظاهر والكينونة)؛ وذلك تطلعا إلى استيعاب هوية أجناس ملتبسة على الحدود وعصية على التجنيس.

يتشيّدُ بناء "السارد وتوأم الروح من التمثيل إلى الاصطناع" على محورين أساسَيْنِ، عمودي وأفقي: تتدرج المحكيات الشخصية (الأدب الشخصي Littérature personnelle) )- على المستوى العمودي- من الإبدال الحداثي الذي كان يراهن على مماثلة المحال إليه والسير على منواله، مع الوعي بألاعيب الكتابة ومغامراتها (السيرة الذاتية الكلاسيكية)، إلى الإبدال ما بعد الحداثي الذي أصبح المحال إليه في صور وهيئات عديدة: (أصوات متعددة، صور المؤلف وتوائم روحه الملتبسة). وفي هذا الصدد، يتلاشي ويضمحل الصوت المطابق أو البديل أو المماثل بحكم انهيار الوهم النرجسي وتعدد الأصوات. كل صوت يزعم أن المؤلف الحقيقي انتدبه للتحدث باسمه. أيهما أقرب إلى ذاته؟ أيهما أعلم بسريرته ودخيلته؟ أيهما الناطق الرسمي باسمه ولسانه؟ نعاين- في هذا الصدد- استقواء مظاهر التصنع والاصطناع، وبمقتضاه لا يحل صوت اللبيس أو توأم الروح محل المؤلف بل يلغيه ويقصيه.

سعيت -على المستوى الأفقي- إلى توضيح كيف تتأرجح المحكيات الشخصية البينيّة بين ثلاث حقائق: الحقيقة التاريخية (كيف يتحول المحكي الشخصي إلى وثيقة لملء ثقوب الذاكرة؟)، والحقيقة الذاتية (لا تهم الموضوعية بل الصدق لما له من أهمية في الإحساس بالوقائع والأفعال كما لو وقعت فعلا)، والحقيقة المصطنعة (يتوهم المؤلف بأن النظير هو امتداد لروحه، لكن لا يتوقع -باستقواء الشك والتصنّع والزيف في العصر الراهن- أن يتحول إلى صوت من الأصوات التي لا تنافسه فقط بل تزيحه عن عرشه لتنحيته وإلغائه، والتحدث باسمه بصيغة الجمع).

وبهذا، نكون قد انتقلنا من إبدال المشابهة (semblance) الذي كان يراهن على تماثل الكاتب والسارد في المحكيات الذاتية إلى إبدال المشابهة الفائقة (Hypersemblance)، التي أضحى القرين بمقتضاها ينافس الكاتب الحقيقي، ويلغيه، ويحل محله (ما يصطلح عليه بالواقع الفائق). أو بعبارة أخرى، وقع تحول في الفكر البشري من المراهنة على الحقيقة إلى اصطناعها.

ماذا كان مسعاكم أو مساعيكم من وراء هذا الكتاب؟
 
إضافة إلى الهدفيْن الأدبي (اكتشاف المنطقة البينية العربية أو سرديات البرزخ العربية)، والتربوي (حفز الشباب العربي على دراسة تراثهم السردي، خاصة الأدب الشخصي)، راهنتُ أيضا، على الإسهام في المسار التنموي العربي بتوسيع مجال شعرية المحكيات الذاتية والأجناس التذكارية، وتحصين الذاكرة الجماعية وتعزيز دورَيْها الثقافي والحضاري، وملء فرجات التاريخ المنسي أو المغيّب، ودَمقْرطة الكتابة عن الذات بتشجيع العرب على سرد تجاربهم ومذكراتهم. نعاين عالميا بعد انهيار جدار برلين 1989 ووطنيا اعتبارا من استحداث هيئة "الإنصاف والمصالحة" تعاظم "صحوة الذاكرة" أو "توطد بنيان شعرية البوح" حرصا على نفض الغبار عن ملفات ضرب الحصار عليها لبواعث أخلاقية وسياسية وإيديولوجية.

وهكذا بدأنا نعاين تسونامي المحكيات الذاتي، بإعطاء الكلمة لمن عاشوا أو عاينوا تجارب استثنائية في الحياة للإدلاء بمواقفهم ومحكياتهم. ومن بين الدراسات التي اعتمدتها في كتابي "أزمات الذاكرة- محكيات شخصية أو جماعية خلال الحرب العالمية الثانية"، لسوزان روبان سليمان، كتاب هام يحرص - من جهة - على توسيع شعرية الذاكرة لملء ثقوبها وفهم مناطقها الداجية، ويسعى -من جهة ثانية- إلى استيعاب الشأن الخلافــي أو النزاعي في الذاكرة، مما يذر الملح في الجراح الرمزية والجسدية. وهو ما يقتضي فهم ما وقع، واعتراف الجلاد بشططه في الجور والظلم، وتضميد جراح الضحايا وجبر أضرارهم المعنوية لطي صفحة الماضي الأليم، وتعزيز "بلاغة الإطفاء"، وإرساء قواعد جديدة للعيش الكريم والمشترك والحوار والتواصل.

كلمتك الختامية؟

يسعدني أن أشكر كل من تواصل معي لتهنئتي بالفوز بجائزة الشيخ زايد للكتاب فرع الفنون والدراسات النقدية الدورة السادسة عشرة ماي 2022. لقد غمروني بجليل محبتهم، ورائق التفاتاتهم، وجميل كلماتهم، وأشعروني بثقل المسؤولية كما كان يردد دوما أستاذي محمد مفتاح طيب الله ثراه. إن الكاتب - بمجرد أن يُطبع الكتابُ ويوزع- يصبح ملكا للقراء ليقولوا كلمتهم فيه، ويؤولوا محتوياته وفق خلفياتهم المعرفية. آخر عبارة أريد أن أوصلها إلى كل من يرغب في قراءة الكتاب، أن الخوض في قضية النزاع أو الخلاف- التي تغدو شأن الذاكرة- يخص أساسا التمثيل العمومي لحدث سابق وإعادة تأويله بالنظر إلى مفعوله وأثره السلبي في نفوس الناس وسرائرهم.



في نفس الركن