Quantcast
2021 ديسمبر 17 - تم تعديله في [التاريخ]

الكفاءة خانت الغرب


العلم الإلكترونية - بقلم عبد الله البقالي

دون أدنى مجازفة في القول، يجمع كثير من المحللين والمراقبين على أن القوى العظمى في العالم لم تعد بتلك القوة المعهودة، التي مارست من خلالها تفوقها العلمي والعسكري والاقتصادي في العالم، وأن تداعيات جائحة كورونا، أكدت أن هذه القوى لم تعد الفاعل الرئيسي الوحيد في الأوضاع السائدة في العالم، وأن الأسباب التي مكنتها من أن تحتل موقع الريادة فيما يتعلق بممارسة القوة لم تعد قادرة على أن تضمن لها احتكار هذا الامتياز، الذي مكنها من أسباب النفوذ والهيمنة لعقود طويلة من الزمن.

أولا، كشفت هذه التداعيات أن الكفاءة العلمية هي بصدد الانتقال من الغرب إلى الشرق، فمن جهة تؤكد المعطيات المتعلقة بالتطورات المتسارعة والمتعلقة باستمرار هذه التداعيات في التناسل أن تأثيرات الوباء كانت أقل حدة في قارة آسيا، من حيث أعداد الموتى من جراء الفيروس، ومن حيث التكاليف الاقتصادية والخسائر التي ترتبت عنها، بحيث كانت دول آسيا أقل تضررا، في حين تكبدت اقتصاديات الدول الغربية خسائر فادحة وكبيرة ثقيلة، ويفسر هذا الأمر بأن الغرب لم يحسن إدارة الأزمة الصحية الطارئة، حيث بدا مشتتا غارقا حتى الوحل في اعتماد المفهوم التقليدي للقومية، حيث سعت كل دولة في الغرب إلى إدارة الأزمة بمنهجية السيادة الوطنية.

ولنا أن نستحضر كيف توارت إلى الخلف في لحظات صعبة و حرجة وخطيرة معاهدات التكتلات الإقليمية والجهوية، وكيف سارعت جميع الدول الغربية إلى إحكام إغلاق حدودها و عزل نفسها عن تلك التكتلات وعن العالم بأسره، ووجدت كثير من الدول الغربية نفسها وحيدة في مواجهة الخطر بعد أن تهاوت منظوماتها الصحية، ووصل الأمر في بعض الحالات، وفي بعض الدول إلى انتقاء من يموت أولا، لأن البنية الصحية لم تعد قادرة على استيعاب و استقبال ورعاية الوافدين عليها في حالة خطر، واضطرت إلى ترك أعداد من مواطنيها يلاقون مصيرهم المحتوم، الذي لم يكن سوى الموت غير الرحيم.

وبدون الحاجة إلى إعمال كثير من الاجتهاد والبحث عن المبررات، فإن الكفاءة خانت الغرب في التصدي إلى الجائحة، في حين نجحت جل دول الشرق في محاصرة الفيروس علميا واقتصاديا، وهذا ما يتجلى من خلال التطورات والمستجدات، وما ترتب عنها، حيث لازال الغرب محاصرا بركام من الأسئلة الحارقة التي يفرزها استمرار الوباء، مخلفا كثير من الحقائق المخيفة التي تلقي بظلالها على مستقبل الأوضاع هناك.

وقد يكون أهم من كل ذلك أن شعوب الدول الغربية أبدت تنطعا كبيرا للسياسات التي اعتمدتها حكوماتها في مواجهة الوباء، وكشفت عن افتقاد كبير للانضباط، إذ في الوقت الذي تواجه فيه دولها تحديات كبيرة وخطيرة مترتبة عن استمرار التداعيات، بما كان، ولايزال، يفرض ويحتم انضباطا جماعيًا، وتحقيق تعبئة شاملة وقوية، لدفع الأخطار الكبيرة المحدقة بالمجتمعات، في هذه الظروف يلاحظ المراقبون تدني كبير في معدلات الثقة بين الشعوب الغربية وحكوماتها. وفي المقابل أبدت شعوب الدول الشرقية، خصوصا في آسيا، منسوبا ومستويات عالية من الانضباط والامتثال، قد يذهب البعض في تفسير هذا المعطى إلى القول بأن عوامل الديموقراطية والتعددية والاختلاف المعاش في الدول الغربية تتيح مساحات شاسعة للتعبير عن المواقف والآراء، وأن سلوك التنطع الذي أبدته شعوب العالم الغربي يجد تربته في أجواء الحرية السائدة هناك، في حين لا تتيح عوامل الانغلاق السياسي في كثير من أقطار آسيا التعبير وإبداء المواقف بحرية حقيقية، وهذا تفسير منطقي، ولكن في لحظات و أزمنة الأزمات قد يتوارى فيها هذا التفسير إلى الخلف، لأن الأمر يتعلق في هذه الحالات بوجود خطر حقيقي يهدد الحق في الحياة ، ويعرض مستقبل الشعوب والأمم إلى أخطار حقيقية، و في هذه الحالة فإن الخلاف والتجاذب في موضوع مواجهة الأخطار يتوارى إلى الخلف ليفسح المجال أمام حتمية التعبئة الجماعية والانضباط الشامل لمواجهة التهديدات المحدقة بالأمم، في أجواء من التفاهم والانسجام بين السلطات العمومية والمواطنين، لأنه في لحظة تعرض دولة ما لغزو خارجي لا يعقل أن تنسحب القوات العمومية من الجبهة لإتاحة الفرصة أمام التعبيرات الداخلية المختلفة في مواقفها من شرعية الغزو من عدمها، وعلى هذا المستوى يجب أن نعترف اليوم بأن الغرب لم ينجح في هذا الامتحان الصعب، بيد أن دول الشرق ، خصوصا في قارة آسيا نجحت بمستويات عالية، و لذلك فإن الأوضاع في الغرب ستظل مفتوحة على جميع الاحتمالات.

ومن جهة أخرى فإن الانتقال التدريجي للكفاءة العلمية والتكنولوجية من الغرب إلى الشرق يؤشر على بروز ما يمكن أن نسميه بــ (العولمة الجديدة)، حيث يتضح أن عوامل التجارة والاستثمار وطرق الإمداد وتنقل رؤوس الأموال وتوطين الشركات، لن تظل العوامل الوحيدة المحددة لتحديات وسيادة هذه العولمة، بل إن التداعيات المترتبة عن استمرار انتشار الوباء وقدرته الخارقة وغير المفهومة لحد الآن على التوالد و تفريخ متحورات جديدة، يؤشر على أن عوامل الجغرافيا والسياسة ستكون لها تأثيرات بالغة في تحديد معالم هذه العولمة الجديدة، ولنا أن نلاحظ كمراقبين بروز ديبلوماسية جديدة تعتمد اللقاحات في التنافس على مناطق النفوذ في العالم على أساس عامل جغرافي صرف.

ولا غرو في القول إن التكتلات الإقليمية والجهوية في الغرب، كما الشأن بالنسبة للاتحاد الأوروبي وحلف الناتو مثلا يعيشان اليوم أصعب المراحل في تاريخهما بحكم الجروح المندملة التي تسببت فيها جائحة كورونا، والتي خلفها انسحاب بريطانيا من الإتحاد الأوروبي، ويجمع كثير من المراقبين على أن هذه التكتلات الإقليمية التي سادت كقوى لردح من الزمن تعيش في الظروف الحالية أسوأ مراحلها.

خلاصة القول إن الدول الغربية قد تشرع في الأمد المنظور في التباكي على أزمنتها الجميلة التي دفنها تسونامي كورونا، وستجد نفسها مجبرة ومضطرة للبحث عن بدائل للصيغ التقليدية التي اعتادت ممارسة نفوذها في العالم بواسطتها.
 

              

















MyMeteo



Facebook
YouTube
Newsletter
Rss

الاشتراك بالرسالة الاخبارية
أدخل بريدك الإلكتروني للتوصل بآخر الأخبار