2022 مارس 26 - تم تعديله في [التاريخ]

اللعبة الكبرى


العلم الإلكترونية - بقلم عبد الله البقالي

توارت الأخبار المفزعة المرتبطة باستمرار انتشار وباء كورونا اللعين إلى الخلف، ولم تعد تحتل صدارة الاهتمام في مختلف وسائل الإعلام الوطنية والدولية. وخفتت أصوات العلماء والمنظمات الدولية التي كانت تجتهد في التسويق إلى الأخطار الحقيقية والكبيرة المحدقة بحياة الأفراد والجماعات من جراء هذا الفيروس الصغير اللعين. ولم تعد الجائحة أحاديث الخاصة والعامة في مجالسهم. و فجأة تخلى الفيروس عن شراسته المخيفة ولم يعد يصب إلا أعدادا قليلة، وتراجعت قدرته الخارقة على التوالد والتناسل، حيث كان في كل مرة يخرج إلى الوجود في شكل متغير جديد يحير العلماء قبل الأشخاص العاديين والبسطاء. وتخلت كثير من الدول عن مجمل التدابير الاحترازية المشددة التي كانت قد اتخذتها لمواجهة تداعيات الوباء، واقترب كثير منها من العودة إلى الحياة الطبيعية والمعتادة.

ومهم أن نلاحظ أن القوى العظمى كانت تنتظر هذا التراجع والتواري غير المفهوم لحد الآن لتملأ الساحة بحرب رقعتها قطر بلد، ولكن ساحتها الحقيقية تطال خريطة العالم بأسره. وفجأة، وبسرعة فائقة تغيرت الأوضاع في العالم من مواجهة عدو يفتك بأرواح البشرية، واجتهد العالم مجتمعا في البحث عن أسلحة دمار علمية وطبية للتصدي إليه، و وضع حد لخطورته على حياة الأشخاص والجماعات، إلى اشتعال حرب مباغتة في أوكرانيا بين قوتين عالميتين تقبضان بأنفاس النظام العالمي السائد .

عاش العالم خلال السنين الماضية حروب فتك حقيقية لم تكن محظوظة لتنال من القوى العظمى ما حظيت به الحرب الحالية. حروب أبيدت فيها أرواح الملايين من المدنيين الأبرياء العزل، أطفالا وشيوخا و نساء، و وجد الملايين من مدنيين آخرين أنفسهم مضطرين إلى مغادرة قسرية لمنازلهم وأوطانهم، وإلى اللجوء في ملاجئ ومنافي تنعدم فيها أبسط شروط الحياة الإنسانية الكريمة، وألقى آلاف آخرون بأنفسهم في أعماق البحار والمحيطات هربا من الخطر الذي كان يلاحقهم. وقصفت طائرات عسكرية ملايين المدنيين، ودكت البنايات فوق رؤسهم لمبررات مختلفة ومتباينة. و زحفت مدرعات وطائرات و صواريخ وجيوش على دول، وأسقطت أنظمة ونصبت أنظمة أخرى موالية لها، وواصل الاحتلال في مناطق أخرى من العالم تقتيل الأطفال والشيوخ وصادر الممتلكات، وداس قرارات صادرة عن الأمم المتحدة. كل هذا و لم يحرك أحد ساكنا، سواء من القوى العظمى أو من الصغار الذين لا يجرؤون عن الكلام في حضرة الكبار. لكن حينما تعلق الأمر بحالة معينة ترتبط بصلب المصالح المتداخلة بين القوى العظمى قامت الدنيا ولم تقعد، وأضحى العالم بأسره على شفا حرب عالمية ثالثة قد تكون، في حالة نشوبها لا قدر الله، الجرعة الرابعة والأخيرة في جسد النظام العالمي وفي روح الحياة الانسانية جمعاء .

هكذا هو النظام العالمي الجديد، حيث تتسابق القوى العظمى فيما بينها في البناء والتشييد، وتتزاحم في مسارات الاختراعات والاكتشافات التي يقال إن الهدف منها تحسين وتجويد الحياة البشرية فوق البسيطة، لكنها في لحظة معينة، قد تكون مفاجئة، كما هو الحال عليه اليوم، تنقلب نحو الهدم والدمار والتقتيل، و هكذا يصبح العمران مقابلا للخراب، وتصبح الحياة مرادفة للموت، و يتحول التاريخ إلى لحظات أو أزمنة عابرة بدون سياق ولا نسق مفهوم ومقبول، وبدون اتعاظ من طرف هذه القوى التي قد تكون تعتقد أنها تصنع التاريخ، ولكنها في حقيقتها قد تكون بصدد اقتراف جريمة نهاية التاريخ الإنساني .

مهم أن نلتفت إلى بعض الأحداث التي طفت من جديد إلى السطح في إطار التداعيات المترتبة عن الحرب التي تدور رحاها في الميدان العسكري وفي الاقتصاد والثقافة والرياضة وفي غيرها من مجالات ومظاهر الحياة. فالتوظيف العسكري للمجالات غير العسكرية يصبح متاحا وشرعيا حينما تقدر القوى العظمى ذلك في خدمة أجندتها وحساباتها السياسية والعسكرية، ويصير محرما وممنوعا حينما يكون الأمر عكس ذلك. فمهم أن ننصت إلى نائب في البرلمان الإسباني (شخص يمثل أمة) يجهر تحت قبة البرلمان بترحيبه باللاجئين الأوكرانيين الهاربين من العدوان العسكري العنيف الذي يشنه الرئيس بوتين ضد أوكرانيا، فهؤلاء، حسب ممثل الأمة الإسبانية (هم نساء وأطفال وكبار سن يجب أن يرحب بهم في أوروبا، وأي كان يدرك الفرق بين تدفق هؤلاء اللاجئين، وبين غزو الشبان في سن الخدمة العسكرية من أصول مسلمة تم ترحيلهم إلى حدود أوروبا لزعزعة استقرارها واستعمارها)، وهو نفس الكلام الذي ردده مسرح اليمين الإكثار تذرفا في فرنسا، حينما دعا إلى حصر استقبال المهاجرين من أوكرانيا على المسيحيين البيض. هكذا إذن يتحول الدين واللون والعرق إلى عوامل حاسمة في قضايا اللجوء والهجرة، في تناقض تام وصارخ مع القيم الانسانية، بل وحتى مع المواثيق والمعاهدات الدولية التي سنها الغرب نفسه .

ومهم أن نتابع الحملات الكبرى التي تنظم تحت إشراف القوى العظمى لإقناع الأشخاص من مختلف الجنسيات والأعراف والديانات بالتطوع للقتال ضد العدو الروسي في أوكرانيا، فالأمر هنا يصبح مختلفا عن دعوات القتال التي تطلقها أوساط إرهابية متطرفة تستخدم الأشخاص و الجماعات حطبا في النيران التي تشعلها هنا وهناك، بهدف التقتيل والدمار والفتنة. ومن يدري فقد يكون العالم بصدد إعادة انتاج تجربة أفغانستان حينما اعتمدت نفس المقاربة التي كانت السبب في ولادة ظاهرة الارهاب المقيتة والخطيرة ؟

ومهم أيضا أن نتوقف عند قرارات مجموعة من الدول الغربية المشاركة في الحرب ضد روسيا الغازية لبلد جار، والقاضية بتشديد الخناق على أصحاب الملايير من العملات الصعبة الذين كدسوا أموالا طائلة في حسابات لهم بالدول الغربية، والتفكير جديا في تجميد هذه الأرصدة، و وضع اليد على ممتلكات فاخرة لأثرياء روس في هذه الدول. هو نفس الغرب الذي يعرض إغراءاته لأثرياء أغبياء من مختلف أنحاء العالم لتكديس ما جمعوه وراكموه في بنوكها بغض النظر عن الكيفية التي تحقق لهم بها ذلك، هو نفسه الذي يتصرف في هذه الودائع في إطار حسابات سياسية مرتبطة بطبيعة المصالح الاستراتيجية لهذا الغرب المنافق. والحال أن هؤلاء الأغنياء من أثرياء راكموا ثروات طائلة بطرق غير مشروعة أو قد تكون ملتبسة، أو من الأثرياء الأغبياء الذين هربوا ثرواتهم إلى الغرب تحسبا لتطورات سياسية في بلدانهم الهشة قد تعصف بما راكموه وكدسوه، ولاقوا مصيرا أكثر قتامة وقساوة في الملذات التي اعتقدوا في البداية أنها آمنة، وهم على كل حال يستحقون ما تعرضوا له .

ستضع الحرب في أوكرانيا أوزارها عاجلا أم آجلا، ولكن ما أفرزته هذه الحرب سيطبع تاريخ البشرية جمعاء، وسيعيد النظر في بنية النظام العالمي الجديد الذي سيعود إلى تجاذب القطبية القوية.
 



في نفس الركن