2021 أغسطس/أوت 6 - تم تعديله في [التاريخ]

الماء .. قضية ليست حقلا للألغام


العلم الإلكترونية - بقلم عبد اللّه البقالي 

مفهوم السيادة الوطنية يختلف باختلاف جغرافية ومجالات هذه السيادة، إذ يكون هذا المفهوم مرتبطا بجغرافية الوطن فيما يتعلق بالحدود الترابية مثلا، بنفس القدر الذي يرتبط فيه بالانتماء إلى العالم و إلى الكون. و لعل مفهوم السيادة الوطنية على الماء يندرج في صلب تجسيد انتماء القطر إلى الكون، بحيث تكون هذه السيادة مرتبطة بالقوانين وبالاتفاقيات وبالمعاهدات التي تنظم الانتماء الجماعي إلى هذا العالم و تمثل تعاقــدات تنظيم هــذا الانتماء. و بذلك فإن التعامــل القطري مــع قضيــة الماء لا يمكن، ولا يقبل، أن يتم الاكتفاء فيه بتدبير المصالح الوطنية الضيقة. فالماء كــما الهــواء حــق مشترك بين شعــوب العالــم كافــة، و لا حــق لشعب، و لا لدولــة، ولا لحكومة، في التصرف فيه بصفة فردية لا تراعي الحقوق المشتركة للشعوب والدول.
 
فالماء يعد عنصرا أساسيًا من عناصر الحق في الحياة بالنسبة للبشرية جمعاء، و هو شديد الارتباط بحقوق أساسية أخرى من قبيل الحق في الصحة، والحق في العيش الكريم، كما أنه مكون رئيسي من مكونات الأمن الغذائي، فبدون مياه ستنهار منظومة الحياة المتكاملة و المترابطة. و لهذه الاعتبارات و غيرها كثير فإن مجال تدبير المياه في العالم أضحى من المجالات الحيوية و الرئيسية التي تحظى باهتمام المجتمع الدولي، و من الإشكاليات الكبرى السائدة حاليا في بنية النظام العالمي الراهن. ولعل القول بأن الحروب القادمة في العالم لن تعتمد على الأسلحة التقليدية الفتاكة والمدمرة، ولكنها ستكون حروب مياه بدرجة رئيسية، بحيث تسعى القوى العظمى إلى التحكم في مسار مجاري المياه في العالم سواء بطرق مباشرة، أو عبر افتعال أزمات ثنائية و إقليمية بين الشعوب و الدول لخلق مناطق احتقان و مواجهات ، تلهي الدول و الشعوب المعنية عن تكريس جهودها لتحقيق التطور و النمو و الازدهار في المجالات العلمية و التقنية و الاجتماعية التي تعود بالنفع على شعوبها .
 
لذلك من الصعب النظر إلى الخلاف حول سد النهضة في أثيوبيا من زاوية ضيقة تحصره في مجرد نزاع ثلاثي بين أثيوبيا من جهة و جمهورية مصر العربية و جمهورية السودان من جهة ثانية، لأن النظر إليه من هذه الزاوية سيحشره في دائرة ضيقة لا تتجاوز خلافا ثلاثيا بين دول تسعى كل واحدة منها إلى تحقيق مصالح قطرية محدودة، بل إن الأمر يتعلق في حقيقته بقضية تهم الملك العالمي المشترك للماء ، و يهدد بنية عالمية قوية تهم موردا رئيسيا من موارد الحياة .
 
من حق أي قطر في العالم تعزيز بنيته التحتية في مختلف المجالات و القطاعات، لكن في قضية الماء تحديدا، يجب أن يرتبط هذا الحق بضمان حقوق الآخرين، لأن عامل الصدفة الجغرافية الذي وضع منبع الماء في نقطة مائية ما في العالم، لا يمكنه أن يعطي الشرعية في التحكم القطري في المسار الجهوي أو العالمي لمجرى المياه، لأن هذا التحكم سيضر بالحقوق الطبيعية للأمم والشعوب في الماء، و بالتالي بالحق في الصحة و الغذاء و الحياة .
 
لذلك فقضية سد النهضة لا تعني شعبي مصر و السودان لوحدهما، بل تهم شعوب العالم بأسرها، لأن هناك من يعمل بعنف على التحكم في مجرى نهر من أهم أنهار العالم، وهي بذلك من القضايا الرئيسية التي يجب أن تشغل اهتمام المنظمات الدولية وشعوب العالم كافة .
 
إننا بصدد محاولة التسبب في اختناق خطير في سريان الماء في شرايين جغرافية العالم، و لسنا بصدد محاولة إضعاف دولة أو دولتين فقط، و قتل شعبين لا ذنب لهما فيما تسببت فيه هذه الجغرافية، و لكننا أمام تحدي خطير يهدد البشرية جمعاء .
 
لذلك من غير المقبول أن يترك شعبان لوحدهما في مواجهة هذا الخطر العالمي، الذي سيتيح، إن تحقق، لدول أخرى، و جهات متعددة، التصرف إزاء قضية الماء بوازع الانتماء القطري، كمن يتحكم في صنبور ماء يغلقه ويفتحه حسب تقديراته الشخصية المعتمدة على الحسابات الضيقة . و من المنطقي القول بأن قضية سد النهضة هي قضية شعوب العالم برمتها ، و من مسؤولية الأمم المتحدة و مجلس الأمن الدولي ، معالجة هذه القضية بما يحفظ حقوق جميع الأطراف في إطار من العدل و المساواة و الإنصاف. و هي مسؤولية جامعة الدول العربية، و منظمة التعاون الإسلامي لمناصرة قطرين عربيين إسلاميين يتعرضان لمحاولة جادة لإلحاق الأذى بشعبيهما، و من غير المقبول و لا المعقول الاقتصار على دور المتفرج، أو إطلاق العنان للتصريحات و البلاغات التي لم تعد تجدي نفعا .
 
إننا بصدد القول بأن قضية سد النهضة ليست قضية مصرية و لا سودانية، و لا حتى قضية إقليمية يجب أن تعالج في إطار ثنائي و لا إقليمي و لا حتى جهوي . إنها قضية عالمية بامتياز تهم كل شعوب العالم، وقد تكون حالة من حالات النزاع الدولي الذي يجب أن يعالج في إطار دولي بكل صرامة طبقا للقوانين الدولية التي تحفظ وصول الماء إلى كل فرد أو جماعة بالكمية التي تضمن لهم العيش الكريم و تضمن التمتع بجميع الحقوق المرتبطة به .
 
إن قضية تدبير الموارد المائية في العالم لا تحتمل حسابات التفوق الذاتي، ومحاولة إضعاف الآخر، و لا النيابة عن قوى الشر في الإضرار بحقوق الشعوب المجاورة، بل إنها القضية المركزية والمحورية التي تمثل الحاضن الرئيسي لتجسيد وتصريف قيم التعاون والتكامل والتآزر بين شعوب العالم برمتها، لعل قضية سد النهضة تمثل نموذجا من نماذج تجلي و إظهار هذا البعد الإنساني لقضية إنسانية صرفة .
 



في نفس الركن