2025 نونبر 17 - تم تعديله في [التاريخ]

المداخل القانونية لإنفاذ القرار 2797.. من سلطة التوصية إلى قوة الإلزام


د.حكيم التوزان، أستاذ القانون الدولي العام جامعة ابن زهر بأكادير
العلم - بقلم د. حكيم التوزاني

في ضوء التحول العميق الذي حمله القرار الأممي رقم 2797 (2025) بشأن الصحراء المغربية، تطرح الإشكالية المحورية اليوم سؤالًا قانونيًا جوهريًا: كيف يمكن لمجلس الأمن أن ينتقل من مجرد دعوةٍ إلى التفاوض إلى إلزامٍ بالتنفيذ، يُنتج آثارًا قانونية واضحة على الأطراف الممتنعة؟ إن الإجابة عن هذا السؤال تستدعي تفكيك البنية الميثاقية التي يستند إليها القرار، لاسيما المواد 25 و27 و41 من ميثاق الأمم المتحدة، بما تتيحه من أدوات تجعل من قرارات المجلس -متى توافرت الشروط الإجرائية- واجبة النفاذ حتى في غياب الإجماع أو المشاركة الكاملة.

تسعى هذه الدراسة إلى تحليل المداخل القانونية لإنفاذ القرار 2797، من خلال استقراء الاجتهادات القضائية (خصوصًا رأي محكمة العدل الدولية في قضية ناميبيا سنة 1971)، واستعراض الممارسات الأممية التي حوّلت قرارات “توصوية” إلى التزاماتٍ تنفيذية (كما في روديسيا، كوسوفو، وليبيا). وتبيّن أن التعطيل المتعمّد لمقتضيات القرار لا يعدّ موقفًا سياسيًا فحسب، بل إخلالًا بالتزامٍ دولي يخول للمجلس تفعيل سلطاته التدريجية وصولًا إلى التدابير غير العسكرية.

إن القرار 2797 لا يمثّل محطةً عادية في مسار النزاع، بل لحظةً معياريةً جديدة تؤسس لانتقال الأمم المتحدة من سلطة التوصية إلى قوة الإلزام، ومن إدارة الأزمة إلى هندسة الحلّ الواقعي تحت السيادة المغربية.

وعليه، يقتضي الجواب عن هذا السؤال العودة إلى البنية المعيارية للميثاق الأممي، التي لم تُصمم لتبقى حبيسة الدعوات الدبلوماسية، بل لتمنح مجلس الأمن سلطةً مرنةً ومتدرجةً تمكّنه من الانتقال من مرحلة التوصية (recommendation) إلى مرحلة الإلزام (obligation) كلما ثبت أن استمرار التعطيل يُقوّض مقاصد الميثاق في حفظ السلم والأمن الدوليين.

وعليه، وللإجابة عن هذا السؤال تستدعي تتبّع أربعة مداخل متكاملة في منظومة الميثاق الأممي، تُتيح للمجلس التحرك تدريجيًا من الإقناع إلى الإلزام، ومن الفصل السادس إلى عتبة الفصل السابع، دون المساس بمرتكزات الشرعية الدولية. المدخل الأول: التفعيل التدريجي للفصل السادس (المادتان 36 و37): من التوصية إلى تحديد شروط التسوية تُعدّ المادتان 36 و37 من ميثاق الأمم المتحدة حجر الزاوية في آلية الانتقال من التوصية إلى الفعل، إذ تنصّ المادة 36 (الفقرة 1) على أنه: “يجوز لمجلس يوصي بما يراه ملائماً من الإجراءات وطرق التسوية". أما المادة 37 (الفقرة 2) فتضيف: إذا لم تؤدِّ هذه الجهود إلى تسوية النزاع، فللمجلس أن يتخذ التدابير التي يراها ضرورية للحفاظ على السلم والأمن الدوليين.

تُعدّ العبارة المفتاحية هنا هي «التدابير التي يراها ضرورية»، وهي صياغة مرنة  تتيح لمجلس الأمن الانتقال من سلطة التوصية إلى سلطة التحديد (pouvoir de détermination). فحين يثبت للمجلس أن الأطراف تماطل أو تمتنع عن الانخراط في العملية السياسية، يمتلك – بمقتضى المادتين 36 و37 من الميثاق – الحق في إصدار قرارات لاحقة ذات طابع تقييدي يمكن أن تشمل: تحديد جدولٍ زمنيٍّ واضح لمراحل المفاوضات؛ تسمية الأطراف المعنية صراحةً بوصفها أطرافًا رئيسية في المسار السياسي؛ حصر موضوع التفاوض في مقترح الحكم الذاتي باعتباره الحل الواقعي والوحيد المعترف به دوليًا. وقد سبق للمجلس أن فعّل هذه الصلاحيات في سوابق متعددة أكدت أنّ غياب أحد الأطراف لا يجمّد المسار الأممي، بل يمنح المجلس مساحةً أوسع لتحديد الإطار بنفسه. ففي النزاع القبرصي (1974–1983)، اعتمد القرار 541 الذي حدد الإطار التفاوضي رغم رفض أحد الأطراف المشاركة. وفي كمبوديا (1992)، أقرّ المجلس اتفاق باريس وفرض جدولًا تفاوضيًا بعد تعثّر المحادثات الثنائية. كما كرّر النهج ذاته في أنغولا وموزمبيق، حين حدّد الأطراف ومراحل الانتقال السياسي رغم اعتراض بعض الفصائل المسلحة. وهكذا، يتبيّن أنّ مجلس الأمن لا يقف موقف المتفرّج عند تعطيل أحد الأطراف، بل يُفعّل صلاحياته الميثاقية لتحديد مضمون العملية التفاوضية وضمان استمراريتها، حفاظًا على جوهر السلم والأمن الدوليين. بحيث أن المجلس لا يبقى رهينة رفض أحد الأطراف، بل يمتلك سلطة تحديد مضمون العملية السياسية. وفي حالة الصحراء المغربية، فإن استمرار الجزائر وجبهة البوليساريو في التعطيل يمنح المجلس المشروعية الميثاقية لإعادة صياغة العملية التفاوضية، بحيث تصبح المبادرة المغربية للحكم الذاتي هي المرجعية الوحيدة المعترف بها. المدخل الثاني: إعادة توصيف النزاع كـ «تهديدٍ للسلم» (المادة 39): من الفشل الدبلوماسي إلى الخطر الأمني يُشكّل الفصل السابع من الميثاق، ولا سيما المادة 39، نقطة التحوّل من التسوية السلمية إلى الإلزام القانوني. إذ تنص على أن: “يقرر مجلس الأمن ما إذا كان هناك تهديدٌ للسلم أو إخلالٌ بالسلم أو عملٌ عدواني، ويقدم توصيات أو يقرر ما يجب اتخاذه من تدابير.” مما يعني أن المعيار الحاسم هو وصف الحالة وليس طبيعتها الأصلية: فحتى نزاع سياسي قد يتحوّل إلى تهديدٍ للسلم إذا طال أمده أو استُعمل كذريعة لزعزعة الاستقرار الإقليمي.

وهنا تظهر أهمية المادتين 39 و99 معًا: فإذا أثبتت تقارير الأمين العام أو المبعوث الشخصي أن الرفض الجزائري–الانفصالي لم يعد مجرد تريّثٍ سياسي بل أصبح استراتيجية تعطيل ممنهجة، يمكن للأمين العام أن يفعّل المادة 99 ويلفت نظر المجلس رسميًا إلى أن الوضع بات “يهدد السلم والأمن الإقليميين”.

وقد تجسّد هذا المنحى بوضوح في الممارسة التاريخية للأمناء العامين للأمم المتحدة، الذين أدركوا أن “التعطيل السياسي” لا يمكن أن يكون ذريعة لتعليق الشرعية الأممية، بل قد يشكّل محرّكًا قانونيًا لتفعيل الفصل السابع حين تتحول المماطلة إلى تهديدٍ فعليٍّ للسلم.

ففي أزمة قناة السويس سنة 1956، بادر الأمين العام "داغ همرشولد" (Dag Hammarskjöld) إلى تفعيل المادة 99 من ميثاق الأمم المتحدة، فلفت نظر مجلس الأمن إلى أن استمرار رفض بعض الأطراف الانسحاب من القناة بات يشكل تهديدًا مباشرًا للسلم والأمن الدوليين، مما دفع المجلس إلى عقد جلسات طارئة أفضت إلى إنشاء أول قوة طوارئ أممية في التاريخ (UNEF)، في سابقةٍ رسّخت مبدأ تحوّل الأزمة السياسية إلى ملفٍّ ذي صبغة أمنية ملزِمة.

وفي كوسوفو سنة 1999، حين فشلت المفاوضات السياسية ورفضت الأطراف الالتزام بخطة السلام، رفع الأمين العام "كوفي عنان" (Kofi Annan) تقريرًا رسميًا إلى المجلس أكد فيه أن التعطيل الممنهج أصبح يهدد الأمن الإقليمي في البلقان، وهو ما شكّل الأساس القانوني لاعتماد القرار 1244 بموجب الفصل السابع، الذي أنشأ بعثة الأمم المتحدة في كوسوفو (UNMIK) وأعطى للأمم المتحدة سلطة إدارة الإقليم مؤقتًا.

أما في ليبيا سنة 2011، فقد استخدم الأمين العام "بان كي مون" (Ban Ki-moon) الصلاحية ذاتها بعد أن تبين أن فشل السلطات الليبية في احترام التزاماتها الدولية وتصاعد العنف ضد المدنيين بات يشكّل تهديدًا حقيقيًا للسلم الإقليمي والدولي، فدعا المجلس إلى اتخاذ تدابير عاجلة بموجب الفصل السابع، مما أدى إلى صدور القرار 1973 الذي أجاز حماية المدنيين وفرض منطقة حظر جوي.

تُبرز هذه السوابق الثلاث بجلاء أن الأمم المتحدة لا تسمح بتجميد الشرعية الدولية تحت ذريعة “الخلاف السياسي” أو “الامتناع عن المشاركة”، بل تجعل من التعطيل ذاته قرينةً على وجود تهديدٍ للسلم، ومن ثمّ مبرّرًا لتفعيل سلطات مجلس الأمن بموجب الفصل السابع. فالسويس كانت اختبارًا لإرادة المنظمة في حماية النظام الدولي الناشئ بعد الحرب العالمية الثانية، وكوسوفو جسّدت الانتقال من منطق الوساطة إلى منطق الإدارة الأممية المباشرة، وليبيا عبّرت عن تحوّلٍ في مفهوم “حماية المدنيين” إلى التزامٍ دوليٍّ نافذ.

وبالقياس على ذلك، فإن استمرار الجزائر وجبهة البوليساريو في تعطيل مسار المفاوضات حول الحكم الذاتي المغربي لا يُعدّ مجرّد اختلافٍ دبلوماسيٍّ مشروع، بل يُمكن أن يُصنَّف – وفق منطق الميثاق وسوابقه – كحالة إخلالٍ بقرارٍ نافذ صادرٍ عن مجلس الأمن، بما يهدد السلم الإقليمي في شمال إفريقيا ومنطقة الساحل. وهنا يُصبح “الرفض الممنهج” ليس دليلًا على السيادة، بل قرينةً على انتهاك الميثاق تستدعي تدخّل المجلس في إطار سلطته الحمائية لحفظ الأمن الجماعي.

إن القرار 2797 (2025) يقف اليوم على العتبة نفسها التي وقفت عندها تلك الأزمات التاريخية: لحظة التحول من التوصية إلى الإلزام، ومن الجدل السياسي إلى سلطة القانون. ومن ثمّ، فإن تطبيق مقاربة “كوسوفو–ليبيا” على الحالة المغاربية ليس مغامرة قانونية، بل امتداد طبيعي لفقه الأمم المتحدة في مواجهة السلوك المعرقل للسلم، وترسيخٌ لحقّ المجلس في أن يُعيد توصيف النزاع متى أصبح التعطيل نفسه مصدرًا للاضطراب الإقليمي.

وعليه، إذا استمر رفض الجزائر والبوليساريو الدخول في مفاوضات، يمكن للمجلس أن يصدر قرارًا لاحقًا يقرّر فيه أن: “استمرار رفض المشاركة في عملية سياسية دعا إليها المجلس يشكل تهديدًا للسلم والأمن في المنطقة المغاربية.” وهو توصيفٌ كافٍ قانونًا لفتح الباب أمام تدابير المادة 41. المدخل الثالث: التدابير غير العسكرية (المادة 41): من الإقناع إلى الجزاء تنص المادة 41 من ميثاق الأمم المتحدة على أن: “لمجلس الأمن أن يقرر ما يجب اتخاذه من التدابير التي لا تتطلب استخدام القوات المسلحة لتنفيذ قراراته". وتُعدّ هذه المادة أحد أهم مفاتيح الإنفاذ في المنظومة الأممية، إذ تتيح للمجلس أن يُمارس سلطة الردع دون اللجوء إلى القوة العسكرية. وتُعرف هذه التدابير في الفقه الأممي باسم الجزاءات غير العسكرية، وهي أدوات قانونية تتنوّع بحسب طبيعة الإخلال ومداه، وتشمل: قطع العلاقات الاقتصادية أو الدبلوماسية، وهو أسلوب تقليدي لضمان العزل السياسي والاقتصادي للطرف المعرقل؛ فرض حظر السفر أو تجميد الأصول المالية للأشخاص أو الكيانات التي تساهم في خرق قرارات المجلس؛ إنشاء لجان مراقبة أو آليات متابعة دورية تصدر تقارير ملزمة حول مدى التزام الأطراف بالقرارات الأممية. وقد استُعملت هذه التدابير في حالات متعدّدة تُجسّد تطور سلطة مجلس الأمن في الإنفاذ التدريجي:

🔹 في ليبيا (1992)، عقب امتناع السلطات الليبية عن تسليم المتهمين في قضية لوكربي (Lockerbie)، اعتمد المجلس القرار 748 بموجب الفصل السابع، ففرض حظرًا شاملًا على الرحلات الجوية وعلّق أغلب أوجه التعاون الدولي معها. لم يكن الهدف معاقبة الدولة، بل إجبارها على احترام قرار أممي نافذ صدر لحماية السلم والأمن الجوي الدولي.
🔹 وفي السودان (2005)، بعد تقاعس الحكومة عن التعاون مع لجنة التحقيق في جرائم دارفور، أدرج مجلس الأمن عددًا من المسؤولين السودانيين على لائحة العقوبات الدولية، تنفيذًا للقرار 1591، وأحال الملف إلى المحكمة الجنائية الدولية بموجب القرار 1593، في خطوة غير مسبوقة تُكرّس مبدأ المسؤولية الفردية عن الإخلال بالالتزامات الأممية.
🔹 أما في إريتريا (2009)، فقد قرر المجلس بموجب القرار 1907 فرض عقوبات اقتصادية ودبلوماسية واسعة النطاق، بعد أن ثبت تورّطها في تعطيل جهود السلام في الصومال ودعم جماعات مسلحة. هذه السابقة كانت حاسمة لأنها حوّلت مجرّد العرقلة السياسية إلى تهديدٍ فعليٍّ للسلم الإقليمي، مبرّرةً بذلك تفعيل المادة 41 دون حاجة لاستخدام القوة.

وفي ضوء هذه الأمثلة، يتضح أن مجلس الأمن لم يترك قراراته رهينة حسن نية الأطراف، بل طوّر عبر العقود نظامًا تدريجيًا للإنفاذ يقوم على الجزاء الذكي (mesure ciblée intelligente)، أي الجزاء الموجَّه إلى الأشخاص أو الكيانات المعرقلة دون المساس بالشعوب أو البنى الاقتصادية للدول.

وعليه، فإن الحالة المغربية–الجزائرية–الانفصالية تندرج موضوعيًا في الإطار ذاته؛ فـرفض الجزائر وجبهة البوليساريو المشاركة في المفاوضات أو تعطيل مسار الحكم الذاتي يمكن أن يُكيف قانونيًا كـ إخلالٍ بقرار أممي نافذ (2797)، مما يخول للمجلس – متى استمر التعطيل – أن يعتمد تدابير من طبيعةٍ غير عسكرية ضد الأطراف المعرقلة، من قبيل: فرض قيود دبلوماسية مؤقتة كتجميد مشاركات الجزائر في الآليات الأممية الخاصة بالملف؛ إلزامها بتقارير نصف سنوية تُقدَّم إلى المبعوث الشخصي لتقييم مدى التزامها؛ توجيه تدابير مالية أو قانونية موجهة ضد قيادات الجبهة الانفصالية أو شبكات تمويلها في الخارج، مثل حظر السفر أو تجميد الأرصدة. هذه الإجراءات لا تُعدّ “عقوبات سياسية”، بل وسائل إنفاذ مشروعة نصّت عليها الفقرة الأخيرة من المادة 41، التي تُلزم الدول “بالتعاون الكامل مع المجلس في تنفيذ التدابير التي يقررها”. وهي بذلك تشكّل أحد المفاصل الحاسمة في سلطة المجلس على تحويل التعطيل إلى التزام، ومن ثمّ حماية الشرعية الدولية من أن تُختزل في مجرد توصيات بلا أثر. وتأسيسا على ما سبق، إن تفعيل المادة 41 في حالة القرار 2797 ليس احتمالًا افتراضيًا، بل نتيجة منطقية إذا تواصل التعطيل الممنهج من الجزائر أو الجبهة. فالمجلس، بموجب الميثاق، ملزم بالحفاظ على مصداقيته كجهازٍ للسلم والأمن الدوليين، ومن ثمّ فإن امتناع طرف عن تنفيذ قرار نافذ لا يعفيه من الجزاء، بل يُعرّضه لتدابير قانونية متصاعدة تهدف إلى إعادة التوازن بين إرادة المجلس وسلوك الأطراف. وبذلك تتحوّل المادة 41 إلى جسرٍ بين الالتزام المبدئي والإنفاذ الفعلي، أي من لغة النص إلى فعل القانون. المدخل الرابع: أولوية قرارات مجلس الأمن (المادة 103): حين يتقدّم الميثاق على الاتفاقيات تنص المادة 103 من ميثاق الأمم المتحدة على قاعدةٍ آمرةٍ لا تقبل التأويل: “إذا تعارضت الالتزامات التي يرتبط بها أعضاء "الأمم المتحدة" وفقاً لأحكام هذا الميثاق مع أي التزام دولي آخر يرتبطون به فالعبرة بالتزاماتهم المترتبة على هذا الميثاق”. إنها قاعدة آمرة  تعلو على جميع الالتزامات الثنائية أو الإقليمية، وتُشكّل ما يسميه الفقه الدولي «السموّ الهرمي للقانون الميثاقي» (hiérarchie normative du droit de la Charte). وهذا يعني أن قرارات مجلس الأمن تعلو على أي اتفاقٍ إقليمي أو ثنائي يمكن أن تتمسك به دولةٌ لتبرير رفضها.

وبناءً عليه، فإن أي محاولةٍ من الجزائر لتبرير تعطيلها بارتباطاتٍ داخل الاتحاد الإفريقي، أو تفاهماتٍ سياسيةٍ مع جبهة البوليساريو، أو حتى باعتباراتٍ “سيادية” داخلية، لا تُغيّر شيئًا من الإلزام الأممي، لأن قرارات مجلس الأمن تُقدَّم قانونًا على جميع المعاهدات الأخرى.
وقد طبّقت محكمة العدل الدولية هذا المبدأ بوضوح في قضية لوكربي (1992)، حين أكدت أن التزامات الدول بموجب قرارات المجلس الصادرة تحت الميثاق “تسمو على الالتزامات التعاقدية الأخرى، حتى ولو كانت نابعة من اتفاقيات دولية متعددة الأطراف”.

إن هذا المبدأ يختتم منظومة الإنفاذ بأكملها، فهو الذي يُحيل الجزاءات غير العسكرية (المادة 41) من مجرد إجراءاتٍ تنفيذية إلى التزامٍ قانونيٍّ دوليٍّ أعلى لا يجوز التحلل منه، ويمنح مجلس الأمن السلطة المطلقة في ترجيح الشرعية الأممية على الاعتبارات الإقليمية أو السياسية الضيقة.

وبالتالي؛ حين يقرّ الميثاق بأولوية قرارات المجلس، فإنه لا يترك مجالًا للمناورة أو التذرّع؛ فكل إخلالٍ بالقرار 2797 لن يكون سوى انتهاكٍ مباشرٍ للنظام القانوني الأممي. ومن هنا، تتضح حلقة الإنفاذ الرابعة التي تنقل الالتزام من المستوى السياسي إلى مرتبة الإلزام المعياري، لتُغلق دائرة الشرعية وتُرسّخ مبدأ سيادة الميثاق على سلوك الدول والأطراف. ذلك أنّ ميثاق الأمم المتحدة لا يقف عاجزًا أمام التعطيل، بل يضع سلسلةً متدرجة من المداخل القانونية التي تمكّن مجلس الأمن من الانتقال من الدعوة إلى التنفيذ: يبدأ بالتحفيز عبر الفصل السادس، ثم التوصيف كـتهديدٍ للسلم بموجب المادة 39، ثم التدابير غير العسكرية تحت المادة 41، وأخيرًا، يُكرّس أولوية الميثاق بموجب المادة 103، بحيث لا تعلو عليه أي التزاماتٍ إقليمية أو سياسية. تُظهر القراءة المتكاملة لمقتضيات الميثاق، من المادتين 36 و37 إلى المادتين 41 و103، أن مجلس الأمن لا يقف عند حدّ التوصية، بل يمتلك منظومة متدرجة من آليات الإنفاذ تمكّنه من الانتقال السلس من الإقناع إلى الإلزام، ومن الدعوة إلى الفعل. فالمدخل الأول يمنحه حق تحديد شروط التسوية متى ثبت فشل الأطراف في الحوار، بما في ذلك تسمية الأطراف والإطار الزمني والموضوع التفاوضي. والمدخل الثاني يخوّله إعادة توصيف النزاع كـ تهديدٍ للسلم والأمن الإقليميين متى تحوّل التعطيل إلى سياسة منهجية تُعرقل الاستقرار، وهو ما يسمح بتفعيل الفصل السابع دون حربٍ أو عدوانٍ فعلي. أما المدخل الثالث فيُرسّخ سلطة المجلس في اعتماد تدابير غير عسكرية تضمن احترام قراراته دون المساس بمبدأ سيادة الدول، كما تُتيح فرض جزاءات ذكية على الأفراد أو الكيانات المعرقلة لمسار الشرعية الأممية. وأخيرًا، يأتي المدخل الرابع ليعلو على الجميع، إذ تُكرّس المادة 103 مبدأ السموّ الميثاقي الذي يجعل قرارات مجلس الأمن ملزمة لجميع الدول، بغضّ النظر عن أي التزاماتٍ إقليمية أو ثنائية.



في نفس الركن