
العلم- ليلى فاكر
في خطابه السامي بمناسبة عيد العرش المجيد لسنة 2025، رسم صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله ملامح مرحلة جديدة في مسار التنمية الوطنية، مؤكدًا أن مغرب الغد يجب أن يقوم على العدالة المجالية وتكافؤ الفرص بين الجهات، وعلى تجاوز منطق «مغرب السرعتين» الذي عمّق الفوارق بين مراكز النمو والمناطق الهامشية.
وشدد جلالته على أن استمرار التفاوتات الترابية لم يعد مقبولا في مغرب اليوم، داعيا إلى إطلاق جيل جديد من البرامج التنموية أكثر نجاعة، وأشد ارتباطا بخصوصيات المجالات الترابية، مع إرساء دينامية جديدة في تنزيل النموذج التنموي للمملكة، في انسجام مع آليات الجهوية المتقدمة، والميثاق الجديد للاستثمار، وتحديات التوازن الديمغرافي والاجتماعي.
وفي هذا السياق، أفاد الخبير الاقتصادي الدكتور بدر الزاهر الأزرق أن الخطاب الملكي الأخير حمل إشارات واضحة إلى ضرورة إطلاق جيل جديد من برامج التنمية، يوجه بشكل خاص إلى ما يُعرف بـ»المغرب العميق»، تعويضا عن سنوات من الاختلالات المجالية التي أدت إلى تكريس مفهوم «مغرب السرعتين».
وأوضح الأزرق أن المغرب اليوم يعيش مفارقة صارخة بين «مغرب الواجهة»، حيث نرى البنيات التحتية الكبرى والقطارات الفائقة السرعة والمستشفيات الجامعية، و»مغرب الظل»، الذي يعاني من نقص حاد في البنيات التحتية والخدمات الأساسية، كمناطق آيت بوكماز ومسيرات العطش، مؤكداً أن الوضع «أصبح غير مقبول»، كما ورد في الخطاب الملكي.
وأكد الخبير الاقتصادي على أن التنمية لا تتعلق فقط بالبنيات الكبرى، بل تتطلب خلق فرص شغل، وتحسين القدرة الشرائية، وتعزيز الطبقة المتوسطة، لا سيما في العالم القروي، مضيفاً أن الإشكال لم يكن يوماً في نقص البرامج أو الاستراتيجيات، بل في ضعف التنزيل والتفعيل، رغم توفر آليات كالميثاق الجديد للاستثمار، ومشروع الجهوية الموسعة، وتوصيات تقرير النموذج التنموي الجديد.
ولفت الأزرق إلىأن «المشكل ليس في المقترحات، بل في السرعة والفعالية»، مبرزاً أن هناك بطئاً في تفعيل مختلف المشاريع، ما يحرم المناطق الهامشية من ثمار التنمية. وذكّر بأن صاحب الجلالة كان قد دعا منذ ثلاث أو أربع سنوات إلى تعزيز المقاولة في العالم القروي، وخلق طبقة متوسطة، دون أن يتم تفعيل ذلك إلى حدود اليوم.
وأضاف أن الجيل الجديد من البرامج يجب أن يستحضر خصوصية المناطق الهشة، من خلال التمييز الإيجابي في الاستثمار العمومي، وتعبئة الكفاءات المحلية وتعزيزها بكفاءات وطنية، كما ينبغي أن يستند إلى الجهوية الموسعة، انطلاقاً من مبدأ التضامن بين الجهات، مشيراً إلى أن بعض الجهات لا تزال تحتاج إلى دعم قوي للحاق بركب التنمية.
وأبرز الأزرق أن من الضروري تجاوز الطابع الفلاحي الهش للعالم القروي، والانتقال إلى قطاعات واعدة مثل السياحة، والصناعات التحويلية والغذائية، والطاقات المتجددة، والصناعات الاستخراجية، معتبراً أن هذه القطاعات قادرة على خلق فرص شغل وتنمية محلية متكاملة.
وفي سياق متصل، أشار إلى أن المسألة اليوم هي مسألة «ضبط السرعة»: سرعة التنزيل بين الجهات، وسرعة التنسيق بين الوزارات، وسرعة استجابة السياسات العمومية للتحديات الراهنة، خاصة ونحن نقترب من سنة 2030، ومع نهاية الولاية الحكومية الحالية، واستعداد البلاد لاستحقاقات كبرى مثل تنظيم كأس العالم.
وختم الأزرق تصريحه بالتأكيد على أن هذا الجيل الجديد من البرامج التنموية يجب أن يستند إلى رؤية وطنية واضحة المعالم، ترتكز على التمييز الإيجابي، واستراتيجيات جهوية خاصة، تشمل إحداث وكالات لتنمية المناطق الجبلية والصحراوية، مع ضرورة توفر إرادة سياسية قوية تترجم إلى تنفيذ فعلي على الأرض، يراعي الإكراهات الديمغرافية، والاقتصادية، والمناخية، والثقافية التي تشكل اليوم معالم المغرب الجديد.
وفي نفس الإطار أكد الدكتور محسن الجعفري، الباحث في الاقتصاد السياسي والاستثمار، بأن الخطاب الملكي السامي بمناسبة عيد العرش المجيد قد دشّن مرحلة جديدة من التفكير في تقليص الفوارق المجالية، من خلال وضع معالم سياسة عمومية تتوخى العدالة الترابية والمجالية، بما يضمن تسريع وتيرة النمو بشكل منصف بين مختلف جهات المملكة.
وأضاف أن هذه التوجيهات الملكية تفرض تفعيل مسؤولية جماعية، لا تقتصر فقط على الحكومة المركزية، بل تمتد لتشمل الإدارة الترابية، والجماعات المحلية، وكذا الفاعلين الاقتصاديين في الجهات والأقاليم، مشيراً إلى أن الخطاب الملكي حمل في طيّاته دعوة صريحة لتجاوز منطق التفاوتات البنيوية التي ظلت لعقود تحول دون تحقيق التوازن التنموي.
ومن جهة أخرى، أبرز الجعفري أن الدينامية الاقتصادية التي تعرفها المملكة، والتي انعكست من خلال تحولات هيكلية عميقة في البنية الإنتاجية، لاسيما ارتفاع مساهمة القطاع الصناعي واتساع رقعة المبادلات التجارية، تُعد فرصة حقيقية لتوسيع قاعدة التنمية، غير أن آثارها ظلت مركزة في الحزام الساحلي الممتد بين طنجة والجرف الأصفر.
وعلى الرغم من هذا التقدم الصناعي، يرى الخبير الاقتصادي أن المبادرات خارج هذا المحور ما زالت محتشمة، إذ لم ترقَ إلى حجم الإمكانات والموارد التي تزخر بها باقي جهات المملكة، وهو ما يستدعي إعادة النظر في سياسات التموقع الصناعي ومقاربة الاستثمار الترابي.
في السياق ذاته، لفت الجعفري إلى أن تحقيق العدالة المجالية لم يعد خيارًا، بل أصبح ضرورة ملحة تفرضها التفاوتات في توزيع الدخل ومستويات العيش، مبرزًا أن الحل يكمن في بناء أقطاب تنموية جهوية ترتبط بمقدرات كل منطقة، وتعكس أولويات النموذج التنموي الجديد، وتستفيد من دروس التجربة الناجحة بالأقاليم الجنوبية.
وتابع أن هذا النموذج الجنوبي قد أثبت فعاليته، لا فقط بفضل التمويل العمومي، وإنما أيضًا بفعل الانسجام الحاصل بين الإدارة الترابية والمنتخبين والنسيج المقاولاتي، وهي تجربة يمكن استنساخها وفق خصوصيات كل جهة، شرط توفر الإرادة السياسية والتنظيم المؤسساتي المناسب.
كما شدد الجعفري على أن أي نجاح مستقبلي لهذا الورش يتوقف إلى حد كبير على نوعية النخب السياسية التي ستفرزها الانتخابات المقبلة، داعيًا إلى اختيار كفاءات قادرة على ترجمة التوجيهات الملكية إلى مشاريع واقعية، عبر برلمانات ومجالس منتخبة ذات كفاءة ونجاعة.
واستطرد قائلاً إن الرؤية الملكية ليست فقط توجيهًا عامًا، بل هي بمثابة مقياس جديد للسرعة التنموية، التي تتطلب انسجامًا بين التخطيط المركزي والتنزيل الترابي، في ظل تحديات متزايدة ترتبط بالتحولات الديمغرافية، وتقلص اليد العاملة، والتغير المناخي، والرهانات الطاقية والرقمية.
وختم تصريحه بالتأكيد على أن المرحلة المقبلة تتطلب تحولاً في منطق العمل العمومي، قائمًا على الالتقائية بين الاستراتيجيات، والمساءلة حول الأثر، وتسريع وتيرة الإنجاز، حتى يسير قطار التنمية بالمملكة على سكة موحدة لا تترك أي منطقة خلف الركب.