2025 يونيو/جوان 13 - تم تعديله في [التاريخ]

النبي محمد ﷺ بين البشرية والتقديس: إعادة قراءة موضوع السنة النبوية ودورها في التشريع


 
* بقلم // محمد بوفتاس *

في عالمنا اليوم، تعود إلى الواجهة نقاشات حيوية حول مفهوم "السنة النبوية" ودورها في التشريع الإسلامي، وكيفية فهم العلاقة بين المسلمين والنبي محمد ﷺ. هذه القضية ليست مجرد مسألة فقهية أو علمية فحسب، بل هي مفتاح لفهم الدين بطريقة واقعية وعقلانية تُجدد العلاقة مع النصوص الدينية، وتُحرر المسلمين من أعباء التقليد الأعمى الذي جمد الدين وجعله سجينة الماضي.

منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام، جاء النبي محمد ﷺ برسالة سماوية من الله عز وجل، حملها إلى الناس كرسولٍ يبلغ ما أوحي إليه، لا ليبتدع أو يضيف من عنده، بل ليكون حلقة وصل بين الخالق والمخلوق. هذه الرسالة، التي تمثل جوهر الإسلام، هي المعصومة، والمحفوظة، والمرجع الأعلى للمسلمين في عباداتهم ومعاملاتهم وأخلاقهم.

لكن ماذا عن النبي نفسه؟ هل هو معصوم بمعنى أنه فوق الخطأ والزلل في كل أقواله وأفعاله؟ هل هو كائن مقدس لا يجوز نقده أو حتى النظر إلى حياته كبشر طبيعي؟ لا شك أن الإجابة الواضحة من النصوص القرآنية والسيرة النبوية الصحيحة تؤكد أن النبي محمد ﷺ كان بشرًا، خُلق من نفس طين البشر، له صفات الإنسان من ضعف وقوة وفرح وحزن، وكان يعيش في بيئة وظروف اجتماعية معينة، مما يعني أن حياته لم تكن بمعزل عن المؤثرات البشرية والطبيعية.

القرآن نفسه يؤكد على بشرية النبي في آيات كثيرة، منها قوله تعالى: "وما أنا إلا بشر مثلكم يوحى إلي" (سورة الكهف: 110)، وهو تصريح صريح يفصل بين مقام الوحي الذي يأتي من الله، ومقام الإنسان النبي الذي يتلقى هذا الوحي ويبلغه. كما أنه في موقفه من الاجتهادات والرأي الشخصي، لم يفرض النبي على أمته كل ما كان يراه أو يفعله، بل كان يفرق بوضوح بين ما هو أمر إلهي وما هو رأي بشري، كما جاء في الأحاديث الصحيحة التي تقول إنه لو أمر بأمر من رأيه الخاص لقال "فعلت كذا وكذا" لتوضيح الفرق.

إشكالية تقديس السنة أو اعتبار كل ما جاء في حياة النبي مقدسًا ولا يجوز الاعتراض عليه، تنبع من تحجيم الفهم وتحويل النبي من رسول إلى رمز أو حتى صنم يُعبد بالمعنى المجازي، حيث لا تُفهم السنة في إطارها الصحيح كأداة لتفسير وتطبيق الوحي، بل تُعامل كمصدر تشريع مستقل ومطلق، يُضاف إلى القرآن، ويُربط بهما مسار الدين بأسره. وهذا يخلق تعارضات ومشكلات حقيقية، لأنه يجعل من السيرة الشخصية للنبي، بما فيها ما يخص ظروفه الاجتماعية والثقافية، معيارًا دينيًا إلزاميًا يجب على المسلمين الالتزام به حرفيًا.

النتيجة أن الدين يتحول إلى مجموعة من العادات والتقاليد المرتبطة بشكل أعمى بالحياة التاريخية للنبي، ويُفقد جوهره الحيوي الذي يتمثل في القيم والمبادئ الكبرى كالعدل، والرحمة، والحرية، والكرامة الإنسانية. بل تتحول الممارسة الدينية إلى إعادة إنتاج ماضٍ تاريخي بشكل حرفي، مما يحول الدين إلى روتين جامد لا يناسب تحولات الزمن ولا تحديات العصر.

إعادة النظر في مفهوم السنة ليست رفضًا للسنة النبوية، بل تصحيح لمسار فهمها وتطبيقها. لا بد أن تُفهم السنة على أنها الوسيلة التي نقلت الرسالة، وساعدت على تطبيقها في سياق زماني ومكاني معينين، وأن أي اجتهاد بشري داخلها قابل للنقاش والتطوير مع تغير الظروف. فالفهم الصحيح يدعو إلى الاعتراف بالبشرية الكاملة للنبي محمد ﷺ، واحترام دوره كرسول لا كقديس، وتحرير المسلمين من عبودية الشكل إلى عبودية المضمون والروح.

هذا الفهم لا ينقص من مكانة النبي، بل يكرّمه بالمنزلة الحقيقية التي أرسل من أجلها، ويعيد الدين إلى طريقه القويم، طريق العقل والرحمة والعدل، بعيدًا عن التزمت والتشدد الذي يجرّ الدين إلى صراعات داخلية ويصد الناس عنه.

في النهاية، الاعتراف بأن النبي مجرد بشر، وأن السنة ليست كتابًا مقدسًا مستقلاً بل تفسير وحالة تطبيق للوحي، هو خطوة ضرورية نحو تجديد الإسلام، وفتح آفاقه على عصرنا، وتمكين المسلمين من الفهم الحقيقي والتطبيق الصادق، بعيدًا عن التعصبات والتجمد الفكري.
 
الكاتب محمد بوفتاس
باحث مهتم بقضايا الفكر والدين والمجتمع



في نفس الركن