2025 شتنبر 14 - تم تعديله في [التاريخ]

بعقْلية الكسل كل أيامنا عُطل !

أول افتتاحية في الموسم الجديد منشورة بملحق "العلم الثقافي" ليوم الخميس 11 شتنبر 2025


العلم - محمد بشكار

أفظع العُطل، تلك التي تتجاوز خُمول الجسد، لِتَطال بتدهُور الوعي العقل، وهي دون احتساب الفوائد والموائد وما تحتها من مسامير، سحيقة في تخلُّفها الزمني، غير محدودة بموسم أو فَصْل، وها قد انتهى غشت، شهر التخلُّص من أعْباء سنة من العمل، فكيف الفِكَاك إذا كان الرُّكْن الأساس في بِنْية المجتمع هو الكسل 
!

لَنْ نُحمِّل الكتابة أكْثر مما تُطيق أو نؤجِّج بالمبالغة الحريق، ألم تَرَ كيف تُلقي غيمة الكآبة بظلالها الواجمة على الوجوه، مع بداية كل موسم جديد، حتى ليكادُ بعض الناس يُطالبون بعطلة إضافية للاستراحة من العطلة، فلا التلميذ يريد العودة إلى المدرسة سواء كان مُنْتقلا أو مُكرِّرا، وإنه لأمر خطير أن يستوي النجاح والرسوب في نفس الشُّعور، ولا المُوظف في كل المرافق الاجتماعية يَلْكزه الإحْساس المُمِضُّ بالمسؤولية، فيهرع لتلبية حاجيات المواطنين المؤجّلة منذ شهر، وأنّى للبعض هذا الضمير ولو مُسْتَتِراً، ما دامت الناعورة بالأشباح فقط تدور، وهكذا دواليك الشأن العام والخاص في البلد، من عامل بسيط في البلدية إلى الوزير، لنقل إن الكسل أصبح بنية اقتصادية بدونها لن تتحقق رفاهية المجتمع، تُدبِّر سوق الشُّغْل من تلقاء نفسها في الحضور والغياب، ولم يَعُد ثمة حاجة للتواجد في عين المكان بالجسد، ولِمَ كل هذا العناء والوعْثاء، لِمَ نفْطم العُطل عن مَراضِعها في شواطئ من قِشْدةٍ وزبَد، ما دام تسجيل الحضور بالروح أونلاين، يكون وفير الإنتاج، يا لفظاعة التفكير الإنساني، أصبح كسولا مشلولا دون آلة جرٍّ بمحرٍّكٍ تكنولوجي، ولا غرابة إذا اتخذت أسطُح الوجوه هيئة الزُّجاج !

لا تكن من الأشرار وتستهين بالكسل في إنتاج الأفكار، وإلا لم يكن ليتبلور كمفهوم فلسفي عالمي، بل حشد زُمْرة واسعة من الأتباع الكلبيين،  ما جعل الكسل اليوم تيّارا جارف الإبداع، ماركس مثلا يعتبر الكسل ولوْ ضِمْنيّاً، أحد الأشكال الناجعة في المقاومة والنضال، ويقف سدا منيعا أمام توحش الرأسمالية التي لا تستنكف عن الإستغلال، أمّا بعض الوجوديين ومنهم ألبير كامو فيعتبر الكسل جزءا لا محيد عنه في الحياة الإنسانية، ولا يمكن أن ننسى الأديب ألبير قصيري، أحد أكبر الكسالى في العالم، استهلك عمره الطويل دون عمل في غرفة بفندق، ولم يكن يملك أي عقار، ومن أجمل عباراته "الملْكية تجعل منك عبدا"، أما أنا فلا  أشفق اليوم إلا على ديوجين، ولا أعرف من حمّلَ هذا المسكين، مسؤولية التغرير بكل الخمولين في العالم، وصنّفه فلسفياً كرائد لمفهوم الكسل، بينما الحقيقة أن الرجل، كان يريد أن يكون نفسه فقط دون تعدُّدِ في الوجوه، فانتفض ثائرا على أقنعة النفاق الاجتماعي، فضّل النّظر للعالَم لا كما يتراءى للقطيع، فأوقد مصباحاً في وضَح النهار، عسى أحدهم يخجل من ظله الذي يحْجُب الشمس، فكيف نُوعِز مفهوم الكسل لهذا النبيل، يكفي أنّه أشاح بوجهه الشّاحب عن إغراءات الإسكندر الأكبر، وعوض أن يبيع ضميره ويُقايض الحكمة بقَصْر، اتخذ مقر سكناه في برميل !    

أما أخطر الكسل فذاك الذي يصيب بآفته المشاعر، فلا يستطيع المرء أن يُعبِّر عن الحب ولو بإطعام طائر، أو يتسلل بكل أنواع الجُبْن إلى مستودع الشجاعة في القلب، فلا يتخذ موقفا وهو مضطجع ولو بحركة أصبع في أحد المواقع ، تُجاه غطرسة وحْشٍ غير آدمي يزهق الأرواح ويُهدِّد كل أرجاء المعمور، أخطر الكسل أن نجعل من كل أيامنا باحة استراحة طويلة العُطل، ولا نعود للكتابة غاضبين بكل الجراح، تماماً كما نهرع حين يشتد الألم إلى أقرب عيادة، أخطر الكسل، أن لا نعود إلى إنسانيتنا التي نفقدها كل يوم، وإلا غداً لا أحد سينجو من الإبادة !

ملحق "العلم الثقافي" ليوم الخميس 11 شتنبر 2025




في نفس الركن