2021 أبريل 4 - تم تعديله في [التاريخ]

تعبٌ كلُّها الصحافة


العلم الإلكترونية - بقلم عبد الناصر الكواي

من قواعدِ مهنة المتاعب التي علمنا إياها أساتذتنا بالمعهد العالي للإعلام والاتصال، أنّ الصحافي يقتات على الأخبار. وفي يومياتِ جريِ معاشر الصحافيين وراءَ هذا القوت، تحدُث طرائفُ ومآسٍ لا حصرَ لها. 
 
فيقع مثلاً، أن يتصل الصحافي بعد بحثٍ ماراثوني عن رقم الهاتف، بمسؤول عن العلاقات مع الصحافة في بنك محترم، وذلك ليتأكد من معلومة تخص مشاركةَ هذا البنك إلى جانب بنكيْن آخرين في تمويل مشروع مغربي-صيني لتصنيع لقاحٍ مضاد لكورونا بطنجة، فيتهرب المخاطَب بالقول: "إنّ ابني يبكي سأعاود الاتصال بك لاحقاً"، وطبعا لن يتصل أبدا! 
 
كما يحدُثُ أنْ يفلح صحافي إثرَ عناء، في ربط الاتصال بخبير للحصول على معلومات تهم جائحة كورونا، ولأن هذا الصحافي يشتغل من المنزل بسبب الحجر الصحي، فإن صياح بائع خضر متجول يجتاح المكالمة "وا البصلة ثلاثة دراهم!"... يبتسم الطرفان على الخط، قبل أن يعتذر الصحافي فيتفهم الخبير الأمر. 
 
ويتصادفُ أن تحصل بوصفك صحافياً، على مادتين مرقونتين لإحدى صفحات الجريدة، أُولاهما تعزية والأخرى خبر. فيختلطُ عليك الأمر في ما يخص صورتي صاحبي المادتين، فتخمن أن الرجل قويّ البنية متوهج المحيّا في الصورة الأولى هو صاحب المادة الخبرية، بينما شاحب الوجه هزيل الجسم هو المتوفى، وبالتالي تضع صورته في التعزية.. لتكتشف صباح الغد العكس وتنال حظك من التقريع. 
 
ومن طُرَف ممارسة المهنة، أنْ يقصد صحافي مطرحَ نفايات "أم عزة" المثير للجدل نواحي العاصمة من أجل ريبورتاج... فيمتنع المسؤولون هناك عن إمداده بتصريح، وما أن يحاول بفضوله الصحافي الالتفافَ عليهم للتصوير، حتى تباغته كلاب الحراسة من بين أكوام القمامة فلا ينجيه منها غيرُ إطلاقِ ساقيه للريح...
 
ومن نوادرِ العمل الصحافي كذلك، أن تستقبل أساتذةً يطالبون بتحقيق ملف مطلبي متعلق بمدة احتساب أجر تقاعدهم، ووسط الدردشة معهم يعلمون أنك تتقاضى أجرا أقل من أجورهم بكثير، فيبادرك أحدهم بالقول: "أنت أحوج منا إلى التضامن معك يا أستاذ !".
 
ومن يومياتِ أصحاب السلطة الرابعة، أن عددا من جمعيات المجتمع المدني "المبتدئة"، تتهرب من إعطاء الصحافي تصريحات أو حتى إصدار بلاغات وبيانات صحافية في مواضيع ضمن تخصصها، وعوض أن يصارح القائمون عليها الصحافي بذلك، يجيبون عن مكالماته بالعبارة المسكوكة: "نحن في اجتماع". 
 
ومن هذه اليومياتِ أيضاً، أن ينزل صحافي إلى الميدان من أجل إعداد ريبورتاج حول المحطة الطرقية الشهيرة بالرباط "القامرة"، فيصادف التقاطه للصور مع مدِّ سائقٍ شيئا ما لشرطي من نافذة الحافلة في يده... ليجد الصحافي "المبتدئ" نفسه في لمح البصر بقسم الشرطة. 
 
ولأنّ الوقتَ عادةً ضاغط، فإنّ بعض إعلاميي السمعي البصري حينما يحتاجون آراء الشارع، يتصلون ببعض معارفهم ويلتقونهم في مكان محدد سلفاً لأخذ آرائهم... وبدَلَ تخصيص مدة دقيقة واحدة لمرور عدة أشخاص، قد تُمنح الكلمة لشخص واحد أو شخصين. 
 
ومن غرائبِ مهنة المتاعب على كثرتها، أنْ تجدَ موادك الصحافية تُسلخ على يد زملاء "محترمين"، وحينما تحتج يصفونك بالمتآمر على موقعهم ومديرهم المعروف دون أنْ يرفّ لهم جفن! 
 
ومن مآسي هذا المجال المفتوح عنوةً على المخاطر والطفيليين والتافهين، أنْ تغلق جرائد ويوضع العاملون فيها أمام المجهول دون تعويض، فطائفة من هؤلاء لاذت بالقضاء، وأخرى لجأت للاحتجاج، وغيرها كل مضى في طريق...
 
بل إنّ صحافيين كُثُراً هجروا المهنة نهائياً، وآخرين ينتظرون دورَهم. في المقابل، توجد أعداد كبيرة من الشبان الحالمين بالالتحاق بركب صاحبة الجلالة، ولي شخصيا حصص يومية مع أسئلة عدد منهم في مواقع التواصل الاجتماعي، حول عالم يحسبونه ورديا بينما يراه غيرُهم شوكيا. 
 
ومن الاستثناء المغربي، أن جُبّة الصحافي تلازمه حتى وهو خارج نطاقِ ممارسة عمله، من أمثلته أن ينشرَ صحافي تدوينةً فيسبوكية بشأن واقعة تعرض لها صديق له في أحد أقسام الشرطة، لتعقبها استجابةٌ سريعة من جهاز الأمن في ظرفِ أقلَّ من أربع وعشرين ساعة. 
 
ومن صروف الدهر في بلادنا، أنْ تحضر بوصفك صحافياً لتغطية نشاط معين، فيقف مشارك في هذه (الندوة) على المنصة وسط الملإ ليطالبك بمغادرة المكان فورا، لأنك تشتغل في صحيفة له معها حساباتٌ! 
 
ومن قَصص المهنة الواقعية، أنّ صحافيا شابا قصدَ مرزوكة لإنجاز ريبورتاج حول سحر "الماخن"، الذي يأتيه جل شباب المنطقة للإيقاع بالنساء الأجنبيات في حبهم... إذ ولج الزميل متقمصاً دورَ زبونٍ محلَّ مشعوذ، وعقبَ مفاوضات طالبه الأخير بألف درهم عربوناً لينجز المطلوب... فلم ينفع صاحبَنا الذي كاد يفتضح أمره إلا الفرارُ كالمجنون !
 
جنونٌ أثيلٌ وليس دخيلاً على يوميات خُدّام بلاط صاحبة الجلالة، فهو يعتري صحافيي الورقي عند "البوكلاج"، والإلكتروني في سباقهم مع الساعة، وصحافيو الوكالة في مقارعة "صبيب" الأخبار غيرِ المنقطع، وإعلاميو السمعي البصري جنونهم قُبَيْلَ المباشر.
 
بمنأى عن أدوارها النبيلة، ألم يأتكم نبأ دراسة أمريكية صنفتِ الصحافة في خانة المهن التي يُقبل عليها المضطربون نفسياً؟ ألتمسُ عذرا من الشاعر أبي العلاء المعري لأحرف بعضَ شعره فأقول: تعبٌ كلُّها الصحافةُ فما أعجبُ إلا مِن راغبٍ في التحاق !
 



في نفس الركن