2022 دجنبر 20 - تم تعديله في [التاريخ]

حذار من الوقوع في الفخ!


العلم الإلكترونية - بقلم الدكتور عبد العلي الودغيري

نشر الصديق العزيز الدكتور فؤاد بوعلي مقالة بجريدة العلَم يوم 6 دجنبر 2022، بعنوان: هل ينبغي علينا التضحية باللغة الفرنسية؟ وفيها طرَح عدة أسئلة تُشكّك في إمكانية إحلال الإنجليزية محل الفرنسية في بلادنا، ودَلَّلَ بما يكفي على عدم جدّية الدولة واستعدادها للقيام بهذا الانقلاب الكبير. وسأقفز على مواطن الاتفاق بيننا في هذا الأمر، وهي كثيرة، بدءًا من الفكرة الأساس التي انطلق منها النقاش حول موضوع الإنجليزية وهل يمكن إحلالُها محلَّ الفرنسية في التعليم والإدارة أم لا؟ متبنّيًّا ما قاله الصديق العزيز في مقاله المذكور وهو أن «الإشكال الجوهري الذي يُطرح حاليا، ليس هو تعويض لغة بلغة أخرى، كيفما كان الوضع الاعتباري للأولى أو الثانية، وإنما هو غياب سياسة لغوية حقيقية تمنح اللغات الوطنية والأجنبية أدوارها الوظيفية»، أي: أدوارَها المناسِبة لكل واحدة منها (والتوضيح منّي).

لكني وجدتُ نفسي متوجِّسًا مرتابًا من الفكرة التي جاءت بعد ذلك، حين ذكر أن الفرنسية قد أصبحت أمرًا واقعًا لا يمكن القفز عليه في حياة مجتمعنا، بعد أن أصبحت « لسانَ جزءٍ معتبَر من المغاربة الذين يرون فيها حلاً لإشكالاتهم اللغوية والتربوية، وآليةً معتبرة للتواصل مع العالم الخارجي» ولاسيما عند مغاربة العالَم. ومن ثمَّ فإن الفرنسية ـ كما يقول ـ «أصبحت جزءًا من النسق اللغوي المغربي، لا بد أن يؤخذ في الاعتبار، في كل نقاش سياسي ولغوي».

هذه الفكرة بالذات، لم أستوعبها ولم أهضمها بالطريقة التي صِيغت بها وقُدِّمت إلينا. ولذلك فكرتُ في إعادة طرحها للمناقشة من خلال مقالتي هذه. وما قصدي إلا الاستيضاح والتبيُّن، وتمهيد الطريق نحو غربلة أفكارنا وتدقيق رُؤانا حول مسائل مركزية في فهمنا وتحليلنا للوضع اللغوي بالمغرب، وتبديد مخاوف قد تنشأ عن الفهم الخاطئ لدى قارئ مُغرِض، فيؤوّله حسب هَواه، ويستغلُّه في غاية مُعاكِسة لما أرادها الكاتبُ حين كتَبَ.

ولذلك أقول مخاطبًا الصديق العزيز صاحب المقال، بكاف الخطاب لا بضمير الغائب:

رغم أنك ــ حياك الله ــ حاولتَ استبعاد مقولة كاتب ياسين التي تجعل الفرنسية غنيمةَ حربٍ، فإني في نهاية الأمر، لم أستطع تلمّس الفرق بين ما كان يقوله ياسين ومن على مذهبه، وما تقوله أنتَ في هذه الفقرة من مقالتك. فالفكرة تبدو لي واحدة، وهي أن الفرنسية لم تعد، كما تقول، تلك اللغة التي فرضَها الاستعمار بالدبابات والطائرات، وأنها فقدت شُحنتَها القديمة، فأصبحت كهرّة المنزل الأليفةً لا خوف من عَضِّها ومِخلبها، ولسانَ فئةٍ معتبَرة من المجتمع، فلذك توصي بالاعتراف بها واعتبارها جزءًا لا يتجزأ من النسق الثقافي واللغوي المغربي، وإعادة الاعتبار لها، ووضعها على جدول الأعمال في كل تخطيط لغوي مُقبل. وهذا الرأي الذي انتهيتَ إليه ــ بالصيغة التي كُتِبَ بها وقُدِّمَ إلينا ــ قد يتحوّل في لحظةٍ ما على أيدٍ شيطانية، إلى حُجّة صادرة من مناضل منافح عن العربية ورئيسٍ للائتلاف الوطني حول اللغة العربية، يُتَّكأ عليها وُيدَعَّم بها قرارُ الاعتراف بالفرنسية رسميا، وترقيتِها وإسباغِ صفة اللغة الوطنية عليها فيما يُستقبل من الأيام والقوانين والتخطيطات اللغوية. وهذا مطابق تمامًا في لفظه ومحتواه لما أصبح يُردّده صراحةً عددٌ من النسخ المكرَّرة من كاتب ياسين في مختلف المنابر والصالونات، دفاعًا عن فرنكفونيتهم الموغلة في التطرُّف، وما تجلبه لهم من منافع وامتيازات خاصة. وهذا بالضبط ما كنتُ قد حذَّرتُ منه في مقال سابق منشور قبل أسابيع فقط، (24 / 7/ 2022) بعنوان: (انتظروا الأسوأ)، ختمتُه بالقول : « هناك، اليوم، من يعمل بجد وتفانٍ على دَحرجة الفكرة حتى تصل إلى مرماها البعيد، وهو القبول بالفرنسية ضمن الفسيفساء اللغوي المُشكِّل لهذا التعدد في أبشع صوره. ومن ثمّ التحضير للانتقال إلى مرحلة ترقية مكانة اللغة الأجنبية وإلباسها لباسًا وطنيّا ومنحها غطاءً قانونيّا، وهو الوضع الذي لم يكن الاحتلال نفسُه قد استطاع أن يحققّه ويجسّده على أرض الواقع، فجاء اليوم من خُدّامه وأقنانه من يتطوّع سافِرًا لاستكمال تلك المهمة على أكمل وجه وإذ ذاك سنستمع إلى التصفيق الحارّ، ويُسدَل الستارُ على ضرورة التعامل معها تعاملًا جديدًا على أساس من الاحترام التام، لا يقلّ بحال عن الاحترام الواجب لكل لغة رسمية أو وطنية حقيقية. وسيكون القانون واقفًا كأيّ حارس قويّ بجانبها، لحمايتها ومنع التعرّض لها بأي مسٍّ أو أذى».

وكأن البلاء كان مكلَّفًا بمنطقي، فما جفَّ حبرُ هذه الكلمات التي كتبتُها قبل مدة قصيرة، عندما تناولتُ فكرة التطبيع مع الفرنسية في سلسلة مقالاتي عن كاتب ياسين، حتى جاءت مقالةُ المناضل المنافح عن اللغة العربية لسنوات طويلة، ليردّد الفكرةَ ذاتَها ويؤيدها بالصيغة التي طرَحها.

لا تقل لي، يا صديقي العزيز، بعد هذا، إنك تتحدث عن الفرنسية لا عن الفرنكفونية، وأن صراعنا كان وما يزال مع الثانية لا مع الأولى. وأنا معك في هذه الفكرة، وكنتُ من السبّاقين إلى توضيح الفرق بينهما منذ كتابي عن الفرنكفونية والسياسة اللغوية الفرنسية بالمغرب (1993) بل قبله بكثير. ولكن الفرنكفونية باعتبارها سياسة وإيديولوجية تتوسّل بالفرنسية لغة وثقافة للهيمنة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية ولا تتوسَّل بغيرها، هي التي كانت وما تزال، تحارب العربية والثقافة الإسلامية إلى اليوم، وربما تكون الحربُ علينا وعلى لغتنا وهويتنا غدًا أشرس مما كانت عليه أمسِ واليوم، ولاسيما بعد كلمة ماكرون الأخيرة في مؤتمر الفرنكفونية بتونس. وإذا كنا لا نحارب الفرنسية لذاتها وفي ذاتها، بل نرحّب بها مع غيرها من اللغات الأجنبية ونراها نافعة وصالحة لكل غاية مفيدة بطبيعة الحال، وكل من أراد تعلّمها واستعمالها له كامل الحق في ذلك، فهذا لا يعني أننا تقبل بها ضَرّة منافِسة ومضايِقة للغتنا الجامعة المشتركة، بل ومهيمِنةً عليها ومُعرقِلةً لنموها وتطورها. وإلا لماذا كنا دائمًا نطالب بتعريب لغة التدريس والإدارة؟ ولماذا قاومنا معًا ما جاء به القانون الإطار من تراجع عن اعتماد العربية لغةً لتدريس المواد العلومية؟ أليس لأنه أعطى الأسبقية في التعليم للفرنسية، واغتصَب من العربية ما هو حقٌّ أصيل لها؟ وحَكَم عليها بالتراجع إلى الصف الأخير بعد أن كانت تحتل الصف الأول؟ هل علينا، بعد كل ما خَطَونا من خطوات وقطعنا من أشواط في هذا السبيل، أن نُعفّي على آثارنا وندكُّ ما حَرَثناه بأرجلنا، وننقض ما غزَلناه وفَتَلْناه بأيدينا؟

هذا الواقع الذي تُنبهّنا إليه وتبصِّرنا بحاله، أخي العزيز، وتدعونا لنحسب له حسابه، ونعترف به ونطبِّع معه ونندمج فيه ويندمج فينا، ليس خافيًا على أحد منا. بل إن هذا الواقع الذي تفاقَم وضعُه يومًا عن يوم حتى أصبح مُخيفًا، وأدى إلى تهميش العربية وإضعافها من جانب، وتغلغل الفرنسية، من جانب آخر، في كل مفاصل المجتمع، وفي كل صغيرة وكبيرة من شأننا، وسيطرتها التامة على المجال اللغوي، بفعل الإقبال المتزايد عليها، بتشجيع من الدولة وإغضائها، هو ما نستنكره من الأساس، وهو الباعث لنا ولغيرنا على النهوض لاستنكاره والانتفاض ضده، والمطالبة بتخليص بلادنا من شرّه، وإعادة الاعتبار للغتنا رمز هوزيتنا. هذا الواقع الذي أصبحنا نسميه غزوًا لغويا وثقافيّا، هو الدافع الذي كان وراء إنشاء جمعيات الدفاع عن العربية وفي مقدمتها جمعيتكم ʺالائتلاف الوطنيʺ، وإلا لماذا وُجدت كلُّ هذه الجمعيات والتنسيقيات، ولماذا صَرَخت الحناجر وارتفعت الأصوات؟ وما جدوى المؤتمرات والندوات والمحاضرات وغيرها من الفعاليات التي يُحشَد الناسُ إليها في كل مناسبة وبغير مناسبة؟ هل للتطبيع مع هذا الواقع كما هو والاعتراف به وشَرْعنته والمناداة بالتماهي معه، أم لتغييره وتصحيحه ومحاولة الخروج منه؟ ثم من أين جاء واقِعُ اليوم، وكيف صرنا إليه؟ أليس نتيجة إطلاق العِنان لسيطرة الفرنسية على التعليم والإدارة والحياة الاجتماعية، ونتيجة السياسة العرجاء اللاشعبية واللاديموقراطية لتعليمنا وإعلامنا منذ الاستقلال أو «الاحتقلال» كما سماه المجاهد الخطابي، التي جعلت من الثنائية اللغوية (الفرنسية / العربية) المفروضة في التعليم والإدارة والإعلام والحياة العامة، هدفًا لها وشعارًا، إلى أن تحوَّلت هذه الثنائية إلى أُحادية قاتلة أو شبه أُحادية، وتغلبت فيها اللغة الأجنبية على اللغة الوطنية وأضعفتها وحلَّت محلّها في المجالات الحيوية كلها، بإمكانيات الدولة وبإرادة منها وتوجيه وتشجيعٍ ورعايةٍ؟ كيف وصلنا إلى الحالة التي تؤلِم كلَّ وطني غيور يطوف بشوارع المدن وأزقتها الضيقة، وبالمتاجر الكبرى والصغرى والمطاعم وغيرها من المرافق، فيجد أغلب ما يعلّق ويُكتب من لافتات وإعلانات، بالفرنسية وحروف لاتينية، وعندما يخاطب شخصًا لا يستطيع أن يجيبه إلا بكلمات نصفها فرنسي ونصفها دارجي، وعندما تُكلِّم الأمُّ صغيرَها تُصرّ على استعمال الفرنسية خوفًا وإشفاقًا عليه من هذه العربية المُبَهدَلة التي أصبحت متخلِّفة في نظر كثير من الناس بفعل الدعاية الفرنكفونية وما حولها من أحلاف؟ ألا ترى أن هذا الواقع ماضٍ في التفاقُم يومًا بعض آخر، وأن مهادنته أو التصالح معه يجرّنا إلى الأسوإ؟

أنا أتفهّم خوفك من ردة فعل الفئة الفرنكفونية، ولاسيما المغالية منها، وقد توسَّعت اليوم بشكل ملحوظ، إذا لجأنا إلى الإنجليزية عوض الفرنسية، فتريد أن تبعث إليها رسالة تهدئة وطَمْأنة. ولكن ليس إلى درجة القول إن الفرنسية أصبحت جزءًا من نسيجنا ونسقنا اللغوي والثقافي، أو من هويتنا حتى (وهي العبارة التي يستعملها تيار كاتب ياسين)، فينبغي المحافظة عليه وعدم التفريط فيه، بل لا بد من اعتماده في كل تخطيط لغوي مستقبلي. فكرة تبدو لي مُخيفة والحق يقال. ثم إن هذه الرسالة لا يُحتاج إليها أصلاً ما دمنا لا نقول، أنا وأنت وكثير ممن على رأينا، بإحلال الإنجليزية محل الفرنسية في كل شيء، وإنما ينبغي تعزيز حضورها في عدد من المجالات المهمة ولاسيما في التعليم العالي والبحث العلمي والمجالين الاقتصادي والثقافي والتواصل الخارجي، وتقوية حصص تدريسها في السلكين الإعدادي والثانوي. ومن جهة أخرى، لماذا نشعر بأن من واجبنا التفكير في إيجاد الحلول لفئة من الناس ترفض أغلبيتُها عن سَبق إصرارٍ، إدخال أبنائها إلى مدارس البعثة الفرنسية وما على شاكلتها، وترفض أن تُدخلهم إلى المدارس المغربية الخصوصية منها أو العمومية وهي كلها مزدوجة اللغة؟ ولماذا نفكِّر في إيجاد حل للأم أو الأب اللذين يرفضان أن يكلِّما أبناءهما باللغة الوطنية في البيت والشارع؟ أما مغاربة العالَم الذين فكَّرت في وضعهم، فليست غالبيتُهم من المتعلِّمين أو المستعمِلين للفرنسية في حياتهم ودراستهم وأماكن اشتغالهم، وإنما يتكلمون ويستعملون لغاتٍ أخرى، ويُحبّذون متابعة دراساتهم العليا بالإنجليزية أو لغاتٍ أخرى. ومن يعرف منهم الفرنسية وحدها يتأسف أنه لا يجد من يكلّمه بها خارج فرنسا وجزء من بلجيكا وسويسرا وكندا وقليل من الدول الإفريقية. فماذا نفعل بمغاربة العوالم الأخرى، وهم الأغلبية، يعيشون ويتعلمون في دول كثيرة موزَّعة على جهات الأرض، كإسبانيا وإيطاليا وألمانيا وهولندا وروسيا وأوكرانيا ودول أوروبا الشرقية وأمريكا وغيرها، وهم يستعملون لغات هذه البلدان؟ لماذا لا نفكر في الحلول المنصِفة لهؤلاء أيضًا وهم الأغلبية؟ على أن زيادة عدد المدارس والمراكز الثقافية لتعليم اللغة الوطنية لأبناء المهاجرين على اختلافهم، قد تَفي بالغرض.       

ثق يا أخي أنه لا يمكن بحال أن يُمكَّن للعربية باعتبارها لغة الأمة والوطن، وتُعاد لها السيادةُ وكامل الاعتبار، وتُصبح لغة التدريس والإدارة والاقتصاد، كما نطالب جميعًا، إلا إذا خلَّصناها من هذا الحصار وهذه المزاحمة، وقمنا بتقليص مجالات الفرنسية في مجتمعنا والحدّ من تغلغلها وسطوتها وتسلّطها، ووضعها في مكانها ووظيفتها المناسبين، بأن تظل مجرد لغةٍ أجنبية تُدرَس وتُستعمَل، كما تُدرَس وتُستعمل بقيةُ اللغات الأجنبية، فيما يُحتاج إليه، فقط لا غير. وإذا كنا نشك أو نتردَّد في ذلك ولو للحظة، فلا يمكن لحركتنا التي أردناها دعوةً إلى التحرُّر والاستقلال اللغويّين أن تنجح أو يكون لها أي معنى.

لا أريدك، أخي، أن تفهم كلامي على أنه مزايدةٌ عليك أو اتهامٌ لك في وفائك للعربية وصدق نضالك من أجلها، وقد كنتَ، طيلة ما مضى من السنوات، حاضرًا بقوة في الصفوف الأولى لأغلب الأنشطة التي نظَّمتها وأشرفتَ عليها. لكن الفقرة التي جاءت في مقالك، وربما لم تُصَغ بالوضوح الكافي، بدَت وكأنها فَلتةٌ أو سَبْقُ قلمٍ، قد يفهمها القارئ السطحي مثلي على غير ما أردتَه أنتَ، وذلك ما جعلني جَعَلني أبدي التخوّف من أن يكون حرصُك على الموضوعية والتحليل الواقعي للوضع اللغوي المغربي، قد جرَّك من غير قصد أو شعور، أو في لحظة شرود فكري، إلى السقوط في فخّ هؤلاء الذين يريدون كسب المعركة اللغوية بالالتفاف عليها وزرع ألغام تقود إلى الشك في يَقينياتها التي من المفروض أنها قد حُسِمت وسُطِّرت خطوطُها الحمراء من قبل، وإلى إلقاء السلاح بذريعة التسليم بذريعة الحال والواقع الذي يقال لنا إنه واقع لا يرتفع، وأن ليس في الإبداع أبدع مما كان، وغير ذلك من العقاقير التنويمية التي تفتُّ في العَضُد، وتشقّ صخر الصمود، وتُفتِّر العزائم والهِمَم. هذا خطاب انهزامي استسلامي معروف لا يمكن للقاصِد إلى هدفه الواضح في هذا الدرب الطويل المظلم، أن ينجرّ وراءه، مهما كان فيه من إغراء، أو الالتفات إلى جهة غير الجهة التي ينبعث منها خيطُ النور الذي نراه أمامنًا ببصرنا وبصيرتنا. فأنت أذكى من ذلك وأفطن. ألا تؤمن معي بأن الواقع مهما كان مرّا وعَقباتُه كأداء، قابلُ، بإرادة الله وحسن عونه وتأييده، للتغيير عندما تتضافر الجهود وتجتمع الإرادات، وتقوى العزائم، وتتوفّر الشروط، طال الزمن أو قصر. فدوام الحال من المحال. وإنما على جنود المعركة، فأحرى فرسانُها وقادتها، أن يحتفظوا بتفاؤلهم وحَذَرهم ويقَظتهم واستعدادهم. واقعُ الفرنسية الذي يُراد لنا أن نعترف به ونستسلم له كما هو، وكما فهمتُ من كلامك، قابلٌ بكل تأكيد للتغيير في كل لحظة، حتى ولو كانت الدولة، أي إدارتُها وسُلطتُها، غير مستعدة لذلك ولا تفكِّر فيه، بالمنظور القريب على الأقل. فذلك ليس قدَرًا محتومًا لا فكاك منه أبدًا. لأن قدَر اليوم، يمكن تغييره بقَدَر الغد، وذلك لا يتعارض مع إيماننا بالمشيئة الربانية، فالله قادر على كل شيء. وإليه عاقبةُ الأمور. ولو لم تؤمن الشعوبُ بأن دوام الحال من المُحال، لما نهضَت من كَبوتها، ولا كان لها أملٌ تصبو إليه في غدها، ولما كافحَت من أجل تغيير أحوالها، والتحرّر من عبوديتها. 



في نفس الركن