Quantcast
2023 أكتوبر 29 - تم تعديله في [التاريخ]

خلطة السياسة والقضاء في بلاد الحرية والمساواة والأخوة


العلم الإلكترونية - بقلم عبد الله البقالي

رفض مجلس الدولة في فرنسا قبل أيام قليلة من اليوم، طلب الاستئناف الذي تقدمت به أمامه مؤسستان تعليميتان فرنسيتان ونقابة فرنسية، ضد حكم قضائي كان قد صدر عن القضاء الفرنسي، يقضي بمنع ارتداء العباءة داخل المؤسسات التعليمية في فرنسا، وأقر مجلس الدولة الفرنسي بقانونية القرار. وكان مثيرا حقا أن حصر هذا المجلس الذي يعتبر أعلى محكمة إدارية في فرنسا تعليل وتحثيث حكمه النهائي باعتبار العباءة " جزءا من منطق التأكيد الديني" .

من الصعب مجادلة قضاة القضاء الاداري الفرنسي في مدى قانونية هذا القرار، الذي يأخذ طابع وصفة الحكم القضائي بالنظر إلى الجهة المختصة الصادر عنها، ولأنه من الصعب الحكم على قناعة القضاة في قضية تخضع لتقديراتهم الشخصية حسب ما راج أمامهم من وقائع متضمنة في محاضر وفي مذكرات، لكن ذلك لا يلغي حتمية إنجاز قراءة لهذا القرار ووضعه في السياق السياسي والحقوقي العام .

الذي نعلمه أن فرنسا بلد علماني يضمن حرية الشخص في الاعتقاد بدين معين من عدمه، وهي جمهورية شعار "حرية، مساواة، أخوة "، وهي أيضا بلد يقدس الليبرالية التي لا يقتصر مفهومها على المجال الاقتصادي والتجاري، بل الليبرالية في مفهومها الشامل الحقيقي تعني حرية السوق وحرية الفرد أيضا وضمان حقوق الإنسان. وإذا كان من المقبول من حيث المنهجية، أن تصدر الحكومة الفرنسية قرارات تسعى وتخطط من خلالها إلى الحد من حرية الفرد والجماعات، فيما يتعلق بارتداء الرموز الدينية أو غير ذلك، فإن من غير المفهوم أن يحرص القضاء الفرنسي بجميع مستوياته على  مجاراة الحكومة في هذه القرارات المتعددة، بالتأكيد دوما على أنها قانونية. والحال أن القضاء وجد، ليس فقط لتطبيق القانون، ولكن أيضا لضمان العدل والعدالة  ليشعر الناس بالاطمئنان على أحوالهم وعلى مصالحهم وعلى مصائرهم. وفي  هذه الحالة فان القضاء الفرنسي ظل مخلصا لمجاراته لقرارات إدارية تتدخل في الخصوصيات، و في حرية الفرد في اختيار هندامه وشكله. صحيح قد يتعلق الأمر في بعض الأحيان باستثناءات تكون محددة و مسنودة بقرارات معينة، من قبيل اشتراطه ارتداء الزي الموحد في بعض مواقع الشغل أو داخل مؤسسات تعليمية أو صحية أو سجنية، وهي قرارات بيداغوجية تهدف إلى القضاء على الشعور بالفوارق بين الأفراد داخل هذه المواقع والمؤسسات. وغير هذا من الصعب القبول بالتضييق على حرية الأشخاص في اختيار اللباس الذي يقدرونه مناسبا و لائقا لهم، و لأنه في غياب قواعد قانونية محددة وواضحة فإن الأمر يبقى خاضعا للتقديرات الشخصية المتفاوتة و المستندة إلى القناعات الشخصية و إلى الأمزجة. و هكذا تصبح مناقشة العري مثلا أمرًا مباحا و مشروعا في فرنسا و في غيرها من دول العالم، وقد ينتقل الأمر في المستقبل، موازاة مع تنامي مظاهر وسلوكات التمييز والعنصرية إلى منع ولوج الفضاءات العامة  باللحى والشوارب. لأن التقديرات الشخصية والأمزجة لا تستهدف  الشخص في حد ذاته بل  بصفته حاملا لهوية معينة ومعتقدا لدين معين، وبالتالي فإن التضييق على الحرية الفردية في مثل هذه الحالات يكون فيه الشخص مجرد وسيلة و أداة بينما المقصود يتمثل في تحقيق غايات وأهداف ترتبط بالقيم وبالمعتقدات وبالتالي بالحضارات  .

فرنسا، الثورة التي ساهمت في تغيير مسار الإنسانية بما راكمته الحياة البشرية من مظاهر تطور مبهر، تعود اليوم إلى أزمنة محاكم التفتيش والتضييق على الحريات بقفازات قضائية .

والواضح أن القضية أكبر من مجرد مجاراة قضائية لقرارات إدارية في بلد ما تختلط فيه السياسة بالقانون وبالقضاء، بل في حالة التجربة الفرنسية، تبدو الأمور أكثر تعقيدا، مادام الأمر يتعلق بمجال جد محدد، وجهة وحيدة مستهدفة بما يجري ويحدث. إذ ثمة خيط رفيع يربط بين رزمة القرارات الإدارية الصادرة عن السلطة التنفيذية هناك وركام الأحكام القضائية المسترسلة والملاحقة للقرارات الإدارية الرسمية بالتأييد والمساندة، وبإكسابها الطابع القانوني الذي افتقدته. ويبدو أنه بوجه عام يهم قضايا كثيرة ربطت بين السلطات الإدارية والقضائية في مجالات الدين والإعلام والاستخبارات، وهي المجالات التي تتميز بحساسية كبيرة جدا وبأولوية مطلقة في السياسة الفرنسية الخارجية .

وهكذا كلما تعلق الأمر بالحجاب مثلا، أو بشكايات خارجية من تجاوزات أخلاقية فظيعة من الإعلام الفرنسي في حق شخصيات و مؤسسات دستورية عربية أو إسلامية، أو بادعاءات تجسس، فإن جميع الأحكام القضائية الصادرة عن القضاء الفرنسي في مثل هذه القضايا التي عرضت عليه كانت منسجمة ومتناسقة مع القرارات الإدارية التي اتخذتها السلطات الحكومية هناك، وبالتالي فإن الأمر يتجاوز مجرد قضية واحدة معزولة عن سياق عام معين، بل إنها تؤكد على وجود ترابط قوي ومتين بين جهات قضائية وأخرى إدارية هناك تضع هذا القرار الصادر مؤخرا عن مجلس الدولة الفرنسي في سياق عام معين ينزع عنه الهوية القضائية الصرفة. 

القضية تطرح بإلحاح قوي إشكالية استقلال القضاء، هذه المرة ليس في بلد يحكمه نظام سياسي مغلق، بل ببلد يحكمه شعار "حرية، مساواة، أخوة ".

              

















MyMeteo



Facebook
YouTube
Newsletter
Rss

الاشتراك بالرسالة الاخبارية
أدخل بريدك الإلكتروني للتوصل بآخر الأخبار