2022 دجنبر 27 - تم تعديله في [التاريخ]

سبب الأزمة.. تآكل النموذج السياسي التقليدي


العلم الإلأكترونية - بقلم عبد الله البقالي

يسجل تقرير نشره قبل أيام قليلة مضت، المعهد الدولي للديمقراطية والمساعدة الانتخابية السويدي، تراجع نصف الديمقراطيات في العالم وسط تدهور الحريات المدنية وسيادة القانون، ويعترف بأن الحكومات الاستبدادية تزداد قمعا. والتقرير يتحدث عن الدول ذات الممارسة الديمقراطية، وليس على الدول التي تفتقد إلى أنظمة سياسية ديمقراطية. ولاحظ التقرير وجود قضايا تتراوح بين القيود على حرية التعبير وزيادة عدم الثقة في شرعية الانتخابات، تقوض المؤسسات الديمقراطية. ويفصل في حصر أسباب هذه الانتكاسة الديمقراطية التي تجتاح العالم بأسره، من قبيل الحرب الروسية الأوكرانية وتفشي التضخم والركود العالمي وتغير المناخ وتداعيات جائحة كورونا وأخطار المواجهة النووية.

وتلاحظ الجهة الصادرة للتقرير، أن عدد الدول التي تعرف تراجعا في الديمقراطية لم يكن بهذا الارتفاع على الإطلاق.

جائحة تراجع الممارسة الديمقراطية في العالم لم تقتصر على بعض الدول التي كانت الديمقراطية تترنح فيها وتتعرض إلى ارتدادات، بل طالت دولا كانت تعتبر مرجعا في هذه الممارسة ونموذجا في سيادتها، بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية، التي لاحظ التقرير في شأنها أنها تعاني مشكلات استقطاب سياسي وخلل في عمل المؤسسات وتهديدات للحريات المدنية.

ويسجل التقرير، أنه (من بين 273 دولة التي شملها التقرير، فإن 52 منها تسجل تراجعا في الممارسة الديمقراطية، بينما اتجهت 27 دولة أخرى إلى نظام استبدادي وهو ما يزيد من ضعف الدول التي اتجهت نحو الديمقراطية).

وبعيدا عن الأرقام والنسب والإحصائيات التي يكتظ بها هذا التقرير، فإن ملاحظات هامة ووازنة تستوجب التوقف عندها. فالحديث مثلا عن أسباب معينة تتمثل في تطورات وأحداث يعيشها العالم المعاصر، واستعمالها كمشجب لتعليق جميع أسباب الانتكاسة السياسية التي تجتاح العالم المعاصر عليها، أمر غير جدي، ولا يمكنه أن يصوغ أجوبة مقنعة على ركام من الأسئلة المحيرة، التي تشغل بال واهتمام الشعوب. لأن العالم منذ قرون خلت عرف وعاش أحداثا كبرى لا تقل أهمية، ولا خطورة عما عاشه خلال السنين القليلة الماضية وعما يعيشه حاليا، من جوائح وكوارث وحروب، وظلت الأوضاع السياسية مرتبطة بهذه الأحداث، لكن مع ذلك استطاعت التجربة الديمقراطية أن تتطور وتنمو في العديد من مناطق العالم، ومن الغباء إجراء مقارنات بين ما كانت عليه هذه الديمقراطيات في بداية القرن الماضي وما صارت عليه في نهاية نفس القرن. بل إنه، وبكل يقينية، يمكن التأكيد على أن الأحداث الكبرى الخطيرة التي عاشها العالم ساهمت في تطور الفكر السياسي العالمي، ولا أحد يمكنه أن ينكر مثلا أن التنظير السياسي وتعدد المدارس والمذاهب السياسية، وبلورة الأفكار والآراء، وغنى النقاش السياسي العام في العالم عرف أوجه في الزمن الماضي. ولذلك ليس كافيا القول اليوم إن تداعيات جائحة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية وقضايا التضخم والمناخ وراء تدهور التجارب الديمقراطية في العالم. لأنها أحداث ظرفية كبرى من أحداث ظرفية أخرى عاشها العالم في السابق، لكنها لم تكن في يوم من الأيام سببا في تراجع الممارسة الديمقراطية، بل على العكس من ذلك فإن قوة وصلابة الممارسة الديمقراطية في تاريخ البشرية ساعد وساهم في استيعاب الصدمات العنيفة لما ترتب عن تلك الأحداث من آثار ومن تداعيات. ثم لأن أحداثا من قبيل الحروب، كما هو الشأن عليه بالنسبة للحرب الروسية، الأوكرانية، والمناخ والتضخم، هي من صناعة الدول التي تقودها أنظمة يقال إنها ديمقراطية. وبالتالي فإن الإنسان هو المسؤول عن هذه الأحداث التي يقال اليوم إنها دفعت بالديمقراطية إلى التدهور وإلى التراجع.

الحقيقة، أنه هناك أجوبة عميقة قد تساعد على فهم ما يطال الممارسة الديمقراطية في العالم، وتمثل أسبابا منطقية لتراجعها. ذلك أن الأنظمة السياسية التقليدية طالها التآكل، ولم تعد قادرة على الإبداع، وأضحت عاجزة عن تجديد النخب السياسية، وإضفاء المشروعية على المؤسسات السياسية. وافتقدت إلى التنظير الفكري، وإلى النقاش العمومي، الذي يضمن توسيع المشاركة وتطور وتحسين جودة الأفكار والبرامج والآراء. ويكفي الاستدلال في هذا الصدد بأن الناخبين بصفة عامة صاروا يبحثون عن البديل للنموذج السياسي التقليدي، بغض النظر عن جودة ومصداقية وشرعية هذا البديل، فالناخب يريد أن يجرب التغيير بعدما فقد الآمال في النموذج التقليدي، الذي لم يعد قادرا على التجاوب مع احتياجات الناس. وبعدما لم تعد نفس الوجوه تحظى بالقبول من طرفه، ولعل هذا ما يفسر الظاهرة الغريبة والمتمثلة في أن الذي كان يحظى بثقة الناخب في غابر الأزمان، هو السياسي المعزز بالبرامج الاقتصادية والاجتماعية وبالرؤية السياسية الثاقبة، في حين الذي يختاره الناخب اليوم يفتقد إلى هذه المراجع القوية، ويكفي أن يمتلك براعة في الخطابات الشعبوية وفي استمالة مشاعر الناس، وهذا ما يفسر وصول وافدين جدد على السياسة إلى الحكم في العديد من التجارب الديمقراطية المتقدمة والمتطورة جاءوا إليها من عوالم المال والتطرف والكوميديا والدين. الأزمة المتمثلة في ضرورة الانتقال من نموذج سياسي تقليدي عاقر إلى نموذج سياسي بديل يستجيب للاحتياجات التي أفرزها التطور البشري، هي التي تفسر حالة التآكل والإنهاك التي أضحت عليها الممارسة السياسية في العالم، ولذلك من الطبيعي أن يعرف العالم تراجعا في منسوب الديمقراطية. هذا الانتقال من وضع إلى آخر، ومن نموذج إلى آخر، يتطلب قوة تنظير وتفسير وإقناع، وهي مهمة تستوجب وجود منظرين حقيقيين، وهنا نتساءل ما إذا كانت التطورات في حقول المعارف والمعرفة والعلوم والاتصال والإعلام والفكر، لا تزال قادرة على إفراز رجال ونساء للقيام بهذه الوظيفة الضرورية الملازمة للفكر السياسي في العالم؟

لذلك من السهل إلصاق التهم بأحداث عابرة فيما يتعلق بتراجع الديمقراطية وتدهور أوضاعها في العالم، لكن من الصعب تفسير هذا الذي يحدث وإقناع الناس به، لأن العالم يواجه جائحة حقيقية عطلت الفكر السياسي المعاصر، وسحبت الثقة من السياسة ومن السياسيين، وحطمت القيم السياسية، وحطت من قيمة المؤسسات السياسية والدستورية.



في نفس الركن