Quantcast
2023 ماي 2 - تم تعديله في [التاريخ]

سمفوني.. يا دولة الرئيس! بقلم / / قاسم حول

كنت مذ طفولتي مولعا بأنغام الموسيقى، مع أني لم أر كمنجاتي في طفولتي ولم أستمع لعازف العود في صباي، ولم أتعرف في تلك المراحل من حياتي، على جايكوفسكي ولم أسمع بإسم موتزارت، ولم يخطر ببالي اسم باخ ولا رمسكي كورساكوف. ولم يردد أحد أمامي وعلى مسمعي، اسم بتهوفن.



كنت أنام على سرير من "جريد" سعف النخيل على فراش تسحبه والدتي من حبل بين وتدين وترميه فوق السرير، وتغطيني بغطاء خيوط الصوف المشتبكة. ويوم تدلهم السماء وتهطل مطرا مدراراً، كانت أمي تجمع أواني الطبخ والغسيل وتوزعها في مساحة الكوخ الذي ننام فيه فينزل المطر من بين منافذ سقيفة الكوخ في الطست أو ينقط نقاطا في "قدور الطبخ" ونسمع موسيقى أيقاعات الماء في الأواني المثلومة الحواف، متناغمة مع صوت الرعد بعد أن يلتمع البرق، بين فتحات سقف الكوخ. ومنه عرفت الصورة والصوت وعرفت الضوء، وعرفت الحسن بن الهيثم حينما سأل نفسه "إذا كان لللأنسان عينان إثنتان، فلماذا يرى الشيء واحداً ولا يراه شيئين؟! وصار يبحث في ضوء الحياة ومصادره ومؤثرات سقوطه على نخيل البصرة الناعسة على ضفاف الشاطئ العربي.


اليوم أعرف كل الذين ذكرتهم وغيرهم وأنا مدمن على سماع سمفونياتهم .. وكلمة سمفوني في لغة الإغريق يا دولة الرئيس، تعني الإنسجام أو الإتفاق بين كل العازفيين وكل الآلات الموسيقية، بمعنى الهارومني، فصار الأغريق حين يعقدون الإتفاقية وقبل ألتوقيع يصيحون "سمفوني" أي أنسجمنا كما تنسجم آلات الموسيقى عذبة السماع. وعلينا نحن – العراقيين - أيضاً أن نفهم كلمة سمفوني في عملنا، لكي ننسجم مع بعضنا في الوطن المنهك، ونحلم مع أنغام موسيقى السمفوني، وليس مع أنغام موسيقى المطر في الطسوت وفي الأواني المثلومة الحواف.


وطني الذي "أفقرني" و"أغنيته" إسمه العراق. وهو الآسم الحديث لبلاد ما بين النهرين! وهو ينتسب إلى.. أو هو من سلالة سومر وأكد وبابل وآشور.. هكذا عرفناه وهكذا تدلل شواهده التي لا تقدر بثمن، وكانت أن تسربت شواهده نحو مجاهل الدنيا نهباً، وهو شأن يدمي القلب. ينهبها سفلة الوطن موقعة بأسماء وعناوين الحاكمين بألوان الطيف وحسب الضوابط الثلاثة بالأحمر والأخضر والأزرق!


يوما طلب مني عالم عراقي إسمه "فاروق الراوي" نسخة من فيلمي "الأهوار" وسألته، وهو يقيم في بريطانيا، عن موقعه الوظيفي ولماذا يريد فيلم الأهوار، فأخبرني أنه يعمل في المتحف البربطاني وهو ليس المتحف المعلوم. هو متحف يمنع الدخول إليه، جمعت فيه بريطانيا كل الرقم الطينية السومرية، التي أرسلتها ضابط المخابرات البريطاني "المسز بيل" يوم حكمت العراق أو هيمنت عليه، وتم الإحتفاظ بتلك الرقم، وبوشر بفك رموزها منذ العام 1919 وحتى الآن يتداول على قراءتها وفك رموزها، الأساتذة المتخصصون. قدمت طلبا لرئاسة المتحف عن طريق الرجل الأنيق فاروق الراوي، وإستغرقت الموافقة ستة شهور بمساعدته، فسمح لي بالدخول والتصوير ساعة واحدة من الثانية عشرة حتى الواحدة. ووقعت على إتفاقية أن لا ألمس رقما طينيا واحدا، وهي رقم مشوية بالأفران وتمثل الصحيفة اليومية للسومريين، على أن لا ألمسها ولا أقترب من الجداريات المخزونة، ولا أسلط كثيراً من أضواء التصوير عليها سوى بنسبة محددة ومن مسافة محددة. ثم أغادر!  


الرقم الطينية المشوية والتي باتت فخارية، تمثل صحيفة الأحداث اليومية في حياة الشعب السومري، ولم تكن الكتابة المسمارية مجرد حوادث خبرية دينية وإجتماعية وإقتصادية ولا هي عن علم الفلك والأساطير فحسب، بل أن في كل رقم طيني هوامش تعرف كيف تلفظ المفردة، حتى أن العالم الراوي قد عرف لفظ الكلمات والأغاني وقال لي أن أحدى الأغاني المدونة على أحد الرقم الطينية، إيقاعها يشبه أغنية "من عمه وخاله كحيل مصنصل" في زفة العروس في هور الصحين التي صورتها بفيلم الأهوار.


بلغ عدد الرقم الطينية المفخورة والمفقودة والمحفوظة والتي نقلتها المسز بيل إلى لندن مائة وثلاثين ألف رقما.طينيا مفخوراً، ويبدو أنها تشكل عدد الأيام التي عاشتها الحقبة السومرية منذ إختراع الكتابة المسمارية الأولى مرورا بالرقم الأكدية وآلاشورية والبابلية.


أحزنني ذلك التاريخ الذي صورته. صراحة دمعت عيناي. وعندما شاهدت الراية السومرية قال لي الراوي سأروي لك قصتها ولكن لا تذكرها في فيلمك الذي تصوره الآن وهو "قصة الأهوار" هو غير فيلم الأهوار. الراية السومرية ذات وجهين، الوجه الأول هو وجه الحرب والوجه الثاني وجه الإنتصار، وهي مطعمة بأحجار اللازورد. كانت محفوظة في أحد متاحف العراق وهي محفوظة في بغداد حتى عام 1945 يوم لمح عالم آثار بريطاني شرخا صغيرا في الراية السومرية فطلب من دولة رئيس الوزراء نوري السعيد، أن يأخذها إلى بريطانيا ليتم ترميم الشرخ وإعادة الراية السومرية إلى بيتها في المتحف. فأخذوا الراية ذات حجر اللازورد ونقلوها إلى بريطانيا ولم تعد حتى يومنا هذا، وربما حسنا هي لم تعد، لأنها لو عادت لدخلت في متحف إستعمل طابقة الثاني لقن الدجاج والديكة وإنتاج البيض، من قبل لصوص الوطن، أو بالأحرى سفلة الوطن، وللحديث صلة في يوم ما.! 


ثمة تاريخ ثان في العراق، ويشير إلى مسز بيل ومن أتي بعدها، يتمثل بالوثائق المرئية المصورة التي بادرت أنا بشجاعتي في إنقاذه من بين الأنقاض والسراديب النتنة ومن بين أيادي اللصوص أيضا.


في العام 1972 كان السيء الصيت محمد سعيد الصحاف الذي قرر أن يودي بحياتي غيظا من شدة محبتي لوطني، يبحث عن لقطات على الشاشة لبعض رموز حزب البعث سيء الصيت في داخل دائرة السينما والمسرح، وفيما هو يفتش عن رموز البعث شاهد لقطات عن الزعيم عبد الكريم قاسم، فأنفعل صارخا. لقد جئنا إلى السلطة وهذا لا يزال على قيد الحياة. فطلب الوثائق المصورة سينمائيا للفترة من 14 تموز 1958 وحتى الثامن من فبراير شباط 1963 وأشعل فيها النار. سمعت الخبر وأنا في بيروت فعقدت مؤتمرا صحفيا في نادي الجنوب اللبناني الذي يترأسه الشاعر اللبناني حبيب صادق وأدنت الحادثة وحدث لي ما حدث!


محمد سعيد الصحاف لم تدون صورته على شدة ورق اللعب، وهو أخطر اللاعبين وإحتفظوا به ونقلوه بطائرة خاصة من شارع فلسطين في بغداد إلى دولة الإمارات العربية..؟!


عام 1992 قرر طارق عزيز وزير الثقافة والخارجية لاحقا، جمع كل ما صور عن أهوار العراق وإحرقها حتى لا تبقى الوثائق شاهداً على جريمة التجفيف. بحجة إختفاء المعارضين بين غابات البردي والقصب، فأنجزوا تجفيف الأهوار، وأحرقوا مع أفلام الأهوار أيضا ثلاثين مليون نخلة على ضفاف الفراتين والشاطئ.


وبعد سقوط النظام في التاسع من أبريل 2003 داهم لصوص العراق، السراديب النتنة بمصاحبة إداراتها النتنة في الكرادة التابعة لوزارة الثقافة ومنتداها على نهر دجلة مقابل نهاية شارع الرشيد وصاروا يحملون علب الأفلام والوثائق المصورة، وتوجه آخرون نحو بناية التلفزيون لينهبوا الأشرطة المغناطيسية المصورة عن أحداث العراق، وتوزعت الأفلام السليلويدية والأشرطة المغناطيسة على البلدان المجاورة وغير المجاورة وكلها من بوابة شمال العراق ومؤسساتها في بغداد؟! وصارت أزقة شارع المتنبي الثقافية سوقاً تباع فيه العلب السينمائية وفي داخلها أسرار العراق! وبقيت لسنوات أسرار العراق تباع في أزقة الثقافة المتفرعة من شارع الشاعر المتنبي.

 

فالى متى يبقى الفقراء عشاق موسيقى الأكواخ وجايكوفسكي وباخ وموتزارت يدفعون ثمن المواطنة، في وطن ما بين النهرين التي جفت انهاره وأهواره لتتسع مقابر الشهداء وتتسع قاصات مصارف القتلة، في هذا العراق الذي أفقرني وأغنيته بثراء ثقافتي وثرى أهلي.. وهذا يكفيني!


قاسم حول - سينمائي وكاتب عراقي مقيم في هولندا


              
















MyMeteo



Facebook
YouTube
Newsletter
Rss

الاشتراك بالرسالة الاخبارية
أدخل بريدك الإلكتروني للتوصل بآخر الأخبار