العلم - أنس الشعرة
في هذا البورتريه، نقترب من ملامح الزعيم المغربي علال الفاسي، كما انعكست في علاقته الخاصة بمدينة تطوان ورجالاتها، لا نحاول فقط استعادة صوره المعروفة، بل نبحث في خلفية حضوره السياسي والثقافي والاجتماعي بالمدينة، انطلاقًا من اقتباسات، وشهادات حية لباحثين مختصين في تاريخ شمال المغرب: الدكتور عدنان بن صالح، والباحث وليد موحن، اللذين أضاءا، بمعرفتهم/شهادتهما مسارات هذا الحكي.
في حضن الجبل، على الضفة الأخرى من الحكاية، تقف تطوان شامخة كقصيدة لم تكتمل، مدينة بيضاء، لكن تاريخها مكتوب بالحبر الأسود والدم القاني. حين خطا علال الفاسي أولى خطواته نحوها، لم يكن زائراً يمر، بل كان ابن وطن يبحث عن أشقائه في النضال. تطوان، بالنسبة إليه، لم تكن مجرد مدينة. كانت امتحانًا للجغرافيا، وحدًا فاصلاً بين الممكن والمستحيل.
في بداياته، كانت فاس هي المنبت، هناك تشكل وعي الفتى علال، وتصلّبت عظام فكره في أروقة القرويين. لكنه أدرك سريعًا أن الثورة لا تنبت وحدها في المركز، بل تحتاج إلى أن تمد جذورها إلى الأطراف، وتطوان كانت ذلك الطرف الذي لا ينكسر، ذلك الشمال الذي رأى في نفسه حقلاً للتجريب السياسي والفكري، حين خذلت المناطق الأخرى.
في أواخر العشرينيات، بدأت خيوط أول شبكة نضالية تتشكل بين علال الفاسي وأبناء تطوان، كانوا زملاء في الدراسة، لكن الأقدار جعلت منهم شركاء في الحلم، والحبر، والخطر... كتب الباحث الدكتور عدنان بن صالح عن تلك اللحظة الأولى التي توهج فيها المشروع بين فاس وتطوان:
"لما أسّس الأستاذ علال الفاسي جمعيته السّرية لمناهضة الحماية الأجنبية؛ كان مِن أوائل مَن أحاطهم علما بالمبادَرة؛ بضْعة رجال من وطنيي تطوان، على رأسهم الأستاذ عبد السلام بنونة، واقتَرح لعضوية الجمعية كلاً من المؤرّخ محمد داود وعبد السلام بنونة وأخيه محمد بنونة، وكان ذلك حوالي العام 1928".
ليس في الأمر مجاملة بين مثقفين، بل تحالف بين الحبر والسلاح، بين الثقافة والقرار. كانت تطوان في زمن الاستعمار الإسباني نافذة على العالم العربي، وصوتًا حرًا داخل رقابة خانقة، وقد فهم علال مبكرًا أن من يملك الكلمة في الشمال، يستطيع أن يضغط على الزناد في الجنوب.
وما كانت العلاقة لتبقى على مستوى الرسائل أو اللقاءات النخبوية، بل تحولت إلى مشروع عمل مشترك، يراكم رموزه ويعيد إنتاج نفسه عبر الجغرافيا والمنفى، لقد شكّلت المراسلات المتبادلة بين الفاسي ورفاقه في تطوان مدوّنة نضالٍ ظلّت صامدة أمام عنف الرقابة، كما يشير بن صالح:
"تؤكّد الوفْرة الوافِرة مِن الرسائل المتبادَلة بين علال الفاسي ووطنيي تِطوان طيلة مرحلة الاحتلال على العلاقة الأخوية والإنسانية المتينة بين الرّجل ورفاقه التطوانيين، واحترامهم الكبير لشخصه وأفكاره ونضاله الوطني. ثم لاحقا مع شخصيات أخرى؛ التهامي الوزاني، المفضل أفيلال، محمد العربي الشاوش".
في تلك اللقاءات التي كانت تعقد ببيوت العلماء وأزقة المدينة العتيقة، لم تكن الأحاديث تدور عن اليوميات العابرة، بل كانت تحفر في صخر الزمن أسئلة الدولة، وتؤسس لما سيسميه علال لاحقًا "المغربة الكاملة للوجدان قبل الإدارة"، حيث كان يرى في رفاقه التطوانيين مرآته الثقافية والسياسية، ويخصّهم بنظرة نادرة من الاحترام الوجداني، تقديرًا لصبرهم في المحنة وثباتهم في الموقف. وهو ما خطه في إحدى رسائله الخاصة سنة 1958:
" أنا مشتاق إليكم كثيرا ، ومنتظر القرار النهائي قي مصيري، لأن هواء الجزيرة رطب ما أظن أنه يوافقني، وحتى إذا كان الإخوان لا يزالون مماطلين بعد في الأمر، فالذي يظهر أن أذهب إلى الأسكوريال حيث أنعم (على الأقل) بمطالعة الكتب والاستفادة من أسفارها القيمة، فما رأيكم؟
سلامي ورفيقي لكل أصدقائنا المخلصين مع شكري وامتناني لشخصكم المحبوب.
كان بينهم ودّ لا يشبه المودة العابرة، بل يشبه ما وصفه ابن خلدون بـ"التعاضد النفسي بين من تساوت أحمالهم في الشدائد"، لذلك لم يكن غريبًا أن تشهد تطوان لحظات نادرة من التناغم السياسي بين مدارس مختلفة جمعتها يد التاريخ، وربطتها روح الإصلاح.
منفاه عزلة، بل جسرًا جديدًا لتوسيع رقعة المقاومة. تنقل بين العواصم، لكنه ظل مرتبطًا بتطوان، كأنها بندقية لا تفارقه. ويؤكد ذلك بن صالح في هذا المقطع:
"كافَح الأستاذ علال مرفوقا بالطيب بنونة والمهدي بنونة ومحمد المكي الناصري وعبد الخالق الطريس وامحمد طنّانة وامحمد بنعبود في لقاءات ونضالات عاشوها مَعاً في القاهرة ومدريد وباريس وجنيف".
في القاهرة، كتب، خطب، نظم الشعر، وحشد الأصوات لصوت واحد: المغرب. من هناك، تابع أخبار الشمال كمن يتابع نبضه. لم تكن الصحف الصادرة من تطوان مجرد أوراق منشورة، بل كانت رسائل مباشرة تصل إلى منفاه في المشرق، تُغذّيه وتدفعه إلى الاستمرار.
من أهم محطات النضال، تحوّلت تطوان إلى منبر وطني مفتوح، واصل رجال الشمال حمل القلم بدل البندقية، إلى أن جاء زمن الدم، وقد كتب الباحث وليد موحن، عن هذه اللحظة الذكية في الاستفادة من السياق:
"كان لعلال الفاسي وجود قوي في الساحة الوطنية السياسية في المنطقة الخليفية، حيث استفاد من هامش الحرية النسبي الذي منحه الإسبان للصحافة في شمال المغرب... ولعب دورا موجها في العمل الوطني عبر توجيهه للنخبة السياسية في شمال المغرب لاستغلال الظروف العامة في إسبانيا لطرح إصلاحات على السلطات الإسبانية".
بين مقال في مجلة "السلام"، وقصيدة في "الحياة"، ورسالة في جريدة "الريف"، استطاع الفاسي أن يظل حاضرًا في تطوان وهو بعيد عنها. لم يكن حضوره مجرد اسم في توقيع، بل مشروعا فكريا يتسلل بين السطور. يقول بن صالح:
"كرّسَ علالٌ حضوره الوطني في شمال المغرب، وبالأخص مدينة تطوان، بمُساهماته العديدة بمقالاتٍ أدبية وثقافية وقصائد شِعرية في مجلة 'السّلام' التي صدَرت تحت رئاسة الأستاذ محمد داود سنة 1933... وكانت مقالاته تَحظى بالقراءة من لَدُن جمهور واسع من الناس في شمال المغرب ومن قِبَل السلطات الاستعمارية أيضا".
لكن لحظة القطيعة مع فرنسا كانت تتطلب وضوحًا أكثر، انطلقت نداءات جيش التحرير من جبال الريف، وكان لا بد من موقف لا لبس فيه. حين قال الفاسي من القاهرة "قُضيَ الأمر"، كانت الجملة إعلان ولادة جديدة للمقاومة، لا تعني فقط رفع السلاح، بل إعلان وحدة لا رجعة فيها بين الشمال والجنوب.
ومع استقلال المغرب، لم تنتهِ الحكاية. بل بدأت فصولها الجديدة، حين اندمج حزب الإصلاح الوطني في حزب الاستقلال، وأصبح الشمال جزءًا من الجهاز السياسي الوطني. لكن رغم السلطة، لم يتغير أسلوب علال أبدًا، بل كان يزور تطوان باستمرار، ليس كوزير أو زعيم، بل كمربٍّ وموجّه، يلتقي الشباب، يقرأ معهم، ويخطط لهم، وفي هذا كتب محمد الحبيب الخراز عن تلك اللقاءات الحميمة بين الرجل والمدينة:
"كان علال الفاسي يُستقبل بحفاوة بطولية في تطوان، تعكس الشعبية الواسعة التي كان يحظى بها بين سكانها".
لم تكن الشعبية مصادفة، بل ناتجة عن حضور طويل، دافئ، ومتواصل. وتؤكد ذلك عبارات وليد موحن:
"استمر علال الفاسي بعد ذلك في زيارة مدينة تطوان بانتظام، مشرفا على الشؤون الحزبية العامة والخاصة متمتعا بشعبية واسعة بين مناضلي الحزب وسكان المنطقة عموما حتى وافته المنية".
(...) في المكتبات، في خطب الجمعة، في مقاهي المثقفين، وفي الحلم الجماعي لمدينة قاومت بطريقتها الخاصة. تطوان لم تكن مجرد حليفة لرجل، بل كانت شريكة في ميلاد فكرة: أن الوطن لا يُبنى من المركز وحده، بل من تلك الهوامش التي تقاتل بصمت.
في ممرات مدرسة الحرة بتطوان، وفي حناجر صغار خطباء قرأوا مقالاته في صمت، يعيش علال، لا كرجلٍ فقط، بل كصوتٍ جمع بين الحبر والرصاصة، بين القصيدة والبيان، بين الدولة والحلم.