2023 ماي 28 - تم تعديله في [التاريخ]

في الذكرى 53 لوفاة زعيم الوحدة الأستاذ عبد الخالق الطريس: شخصية وطنية وعربية استثنائية جمعت بين النضال السياسي والإنتاج الفكري والإبداعي والصحافي

نموذج شامخ لرجل الفكر والقلم والنضال من أجل المبادئ والقيم التي آمن بها ونذر حياته للدفاع عنها..


ترك أعمالا جليلة في الميادين السياسية والديبلوماسية والعلمية والثقافية والجمعوية والإعلامية والإنسانية


حلت يومه السبت 27 ماي، الذكرى 53 لوفاة زعيم الوحدة الأستاذ عبد الخالق الطريس، الذي ودعنا في مثل هذا اليوم من سنة 1970، مخلفا حالة من الحزن والأسى، طفحت بها قلوب أقاربه و محبيه وعارفي قدره وتلامذته ورفاقه في النضال الوطني في صفوف الحركة الوطنية ولدى الشعب المغربي بجميع مكوناته وتياراته ونخبه.

انتقلت روح الأستاذ الطريس إلى البارئ سبحانه وتعالى عن سن ال 60، قضى أزيد من أربعة عقود منها في ساحات العمل والمقاومة الوطنية وخدمة الوطن من مختلف المواقع والمنابر، وتحمل المسؤولية منذ أن كان يافعا في 18 سنة من عمره، حيث عاش حياته العريضة مناضلا شريفا ووطنيا مخلصا ومكافحا صادقا ومربيا من طبقة أقطاب التربية والتعليم، الذين وضعوا اللبنات الأولى للمدرسة الوطنية بمناهج مغربية تقاوم جهود المستعمر لطمس الهوية للأجيال الناشئة من المواطنين المغاربة في عهد الحماية، التي فرضت على بلادنا.

ولقد واكب الزعيم عبد الخالق الطريس الحركة الوطنية منذ عهده المبكر، حيث كان من مؤسسي حزب الإصلاح الوطني سنة 1936، و في طليعة الموقعين على أول وثيقة للمطالبة بالاستقلال (فبراير 1943).

وكان أيضا مثالا للمناضل المومن بمبادئ وقيم الوطن، وعرف بتضحياته المختلفة من أجل مواجهة الاستعمار واستقلال ووحدة المغرب. 

وبشهادة رفاقه في النضال، يعد أستاذ الأجيال وأحد مؤسسي ورواد الحركة الوطنية وصناع النهضة المغربية، ومن طليعة جيل بناة الوطن، ومن صفوة المدافعين عن مقدسات البلاد، وواحد من الذين أبلوا البلاء الحسن في الذود عن تحرير المغرب واستقلاله في سبيل الحفاظ على وحدته الترابية وصون هويته ومقوماته وخصوصياته الروحية والثقافية والحضارية.

وهو الذي رأى النور في بيت "الأمة" العامر بمدينة تطوان يوم 16 جمادى الأولى عام 1328 ه ، الموافق ل 26 ماي 1910، وتلقى تعليمه الأولي بالكتاب القرآني"المسيد"، ثم بالمدرسة الأهلية بتطوان، فجامعة القرويين بفاس ، فكلية الآداب بالقاهرة(مصر)، فجامعة السوربون بباريس(فرنسا).

وفي سنة 1930 ستبرز موهبة الأستاذ الطريس الخطابية، حين ألقى خطابا أمام أمير البيان شكيب أرسلان خلال زيارته لعاصمة المنطقة الخليفية تطوان، والتي توجها بعد ذلك بتأسيس جمعية الطالب المغربية كأول هيئة ثقافية من نوعها بالمغرب، ثم الكتلة الوطنية التي قامت بأعباء العمل الوطني، وواصل عملها حزب الإصلاح الوطني الذي ظهر إلى الوجود يوم 18 دجنبر 1936، كأول حزب سياسي منظم بالمغرب.

ساهم الأستاذ الطريس في تأسيس وإصدار جريدة "الحياة" سنة 1934، ثم "المعهد الحر" كأول ثانوية عصرية وطنية سنة 1935، وإليها يرجع الفضل في تخرج الأفواج الأولى من الأطر العاملة والناشطة في العمل النضالي الوطني.

تولى زعيم الوحدة عدة مهام وزارية قبل وبعد الاستقلال، وهي على التوالي: وزارة الأحباس الإسلامية ووزارة الشؤون الاجتماعية والوزارة المفوضة بتسلم السلط بين إدارة الحماية الإسبانية والحكومة المغربية وأخيرا وزارة العدل.
وعلى المستوى الديبلوماسي، كان أول سفير للمغرب بالعاصمة الإسبانية مدريد، ثم بالقاهرة مرتين، ولدى جامعة الدول العربية.

وفي المجال النيابي و البرلماني، انتخب الأستاذ الطريس خلال أول انتخابات تشريعية أقيمت بالمغرب، نائبا برلمانيا عن دائرة تطوان سنة 1963، ثم رئيسا للفريق الاستقلالي للوحدة والتعادلية بمجلس النواب. 

وعلى الصعيد السياسي و الحزبي، ترأس زعيم الوحدة المؤتمر العام لحزب الاستقلال المنعقد سنة 1963 بمدينة الدارالبيضاء، كما انتخب عضوا لللجنة التنفيذية للحزب، وواصل مهامه السياسية إلى أن وافته المنية سنة 1970.
ويجمع مختلف الفاعلين السياسيين الوطنيين، على أن الأستاذ الطريس كان بحق شخصية وطنية وعربية وإفريقية وإسلامية فذة واستثنائية لتعدد مجالات اشتغاله وتدخلاته  وغزارة عطاءاته وإسهاماته الفكرية والإنسانية، التي جمعت بين النضال السياسي والحقوقي المتواصل منذ يفاعتها، وبين الإنتاج الفكري في مجالات الصحافة والأدب والثقافة والمسرح.

كما أن الأستاذ الطريس مارس السياسة بشرف وأخلاق، ومن خلال الحقيقة الواقعية القائمة على فن إدارة الممكنات، وليس عبر المقامرة على طاولة الكذب، وبيع الأوهام للناس، مثلما يفعل ساسة اليوم، الذين يتنفسون الكذب من أجل الحصول على الأصوات، يتلونون كالحرباء ليل نهار، حتى أنهم لم يعودوا يميزون لأنفسهم لونا، ففقدوا بفعل ذلك، كل طعم وكل لون، وصاروا مثار سخرية بين الناس، لقد جنوا على أنفسهم بالتدليس، ففقدوا معنى العمل السياسي النبيل، قامروا بمصلحة الوطن بالكذب فخربوها، وقامروا على خصومهم بالخديعة، حتى ضاعت المصلحة العامة.

ولعل كل مطلع على إنتاجات وأفكار الأستاذ الطريس، سوف لن يجد تناقضا بين أفكاره النيرة البناءة وبين سلوكه الخاص والعام، وسيلمس، وعن قرب، الاعتزاز بالقيم التي نشأ عليها وتلقاها في طفولته.

إنه قطب وطني شامخ ومعلم أجيال تلقت عنه أسس الوطنية والنضال في سبيل الوطن، وصرح عالي الذرى من القيم، التي نحن اليوم وغدا وأبدا في مسيس الحاجة إلى تقويتها وترسيخها وتربية الأجيال الجديدة عليها. وهذا هو التحدي الكبير الذي يواجهنا اليوم في مغرب، حيث البحث عن السبل الكفيلة بالحفاظ على قيمنا ومثلنا، و تقوية انتماءنا للوطن وعشقنا له واستعدادنا للدفاع عنه، وبذلك نكون مواطنين (وطنيين)، نتمسك بالوطنية ونتشبث بالمواطنة، ونندمج في عالمنا بلا عقد، وننفتح على آفاق عصرنا بدون انسلاخ عن الجذور، وتلك هي الخلاصة الواضحة والجامعة المانعة لفكر زعيم الوحدة، والتي آمن بها وتبناها طيلة مشوار حياته، حيث جمع في نضاله بين القيم والمواطنة التي تستند إلى الوطنية الواعية الرشيدة.  

ولعل تخليد ذكرى وفاته اليوم، هي مناسبة سانحة  ليس فقط للتذكير بما تركه هذا الرجل الفذ والشهم من خدمات و أعمال جليلة وهي كثيرة لا تعد ولا تحصى، وإنما لجعل مفهوم الاحتفال بالذكرى بابا مفتوحا على مصراعيه، أولا لطرح العديد من القضايا والمواضيع والعناوين ذات الصلة بشخص المحتفى به كإنسان وكسياسي وكدبلوماسي وكصحفي وكمفكر حداثي، وثانيا، للتنبيه إلى الحيف الذي طال ويطال الرواد في هذا الإطار.

صحيح إن الزعماء الكبار في أي مجال لا يموتون، حتى وإن أغفلت مجتمعاتهم قصدا أو سهوا التذكير بهم، فهم خلفوا  و تركوا البصمات التي تحفظ لهم مقامهم، وتذكرهم في مجالس علية القوم والنخب، خاصة  عندما تزيغ ألسن أصحاب التأويلات الفجة والافتراءات البعيدة عن الحقيقة، وأقلام الباطل والفسق.

وحسبك زعيمنا الخالد قد عملت بحب وإخلاص ونكران ذات، بما أملته عليك قناعاتك الفكرية وحبك الجم لوطنك، قضيت عمرك الجميل في المواظبة على العمل الجاد، وكنت بحق شجرة وارفة بالعطاء، وكتبت تاريخ ومجد هذا الوطن بمداد الفخر والاعتزاز، ومهما قلنا عنك ما نود قوله، فلن نوفيك حقك. وستبقى حيا في الذاكرة الوطنية، بما سجلته من مبادرات وأعمال، هي بكل المقاييس منارة وعلامة مضيئة ومشعة ومصدر للمعرفة التاريخية.

فالأمم والشعوب التي تعيش بدون تاريخ، هي أمم وشعوب تنقصها مقومات الحياة الحرة الكريمة، فالتاريخ هو عصب الحياة، والحرص على تدوينه وتسجيله ونشره وتداوله والترغيب في قراءته والتشجيع على دراسته هو الحرص على الحياة.

ولعل إحياء ذكرى وفاة زعيم الوحدة الأستاذ عبد الخالق الطريس، هو إحياء له عدة دلالات ومعاني، ومناسبة سانحة للاستلهام، وحافز على الاسترشاد، ودافع لأخذ الدروس والعبر من حياة صاحب الذكرى التي كانت حافلة بالنضال المستميت الدؤوب من أجل هدفين رئيسيين أفنى عمره في سبيل تحقيقيهما: التحرير والاستقلال، وبناء مغرب حداثي قائم على مبدأ دولة الحق والقانون والمؤسسات الدستورية.

كما أن إحياء ذكرى وفاة الأستاذ عبد الخالق الطريس، ليس احتفالا، ولكنه تجديد للعهد، وتأكيد للوفاء للقيم والمبادئ والمثل العليا التي عاشها وكان مدافعا عنها وضحى في سبيلها.

وهذا هو المغزى الحقيقي  لإحياء الذكرى، حيث إحياء ضروب النضال السياسي الوطني والفكري والعقائدي والثقافي، وتجديدها في واقعنا المعيشي.

والذين يزعمون أننا نحتفل بالموتى، ونتشبث بالماضي، هروبا من التفاعل مع الحاضر واستشراف المستقبل، لا يفقهون المغزى من إحياء ذكرى وفاة زعيم الوحدة الأستاذ الطريس، ولا يقدرون الأفكار والمبادرات العظيمة التي قام بها بالمغرب برمته، وليس بمدينة تطوان التي أنجبته، أو بشمال المغرب، كما يدعي أو يتوهم البعض، لأن الأستاذ الطريس كان يفكر للمستقبل، وكان يناضل من أجل الأجيال القادمة، فهو مفكر وزعيم وطني، وليس زعيم لمنطقة الشمال، أو لحزب الاستقلال بالمدلول الحزبي الضيق، لأن  هاجسه كان دائما الوطن ووحدته أولا وأخيرا واليوم وغدا، وينطلق من الماضي، ليرتقي إلى آفاق بعيدة،و يستلهم الدروس المستفادة من التاريخ، ولا يظل أسير هذا التاريخ، فهو يبني على أسس راسخة، وليس على غير أساس، مؤمن أقوى ما يكون الإيمان بأن من لا يعرف تاريخه لا مستقبل له، وهي الحكمة التي كان يرددها دائما الملك الراحل الحسن الثاني.

إن الأفكار الملهمة والمجددة التي بثها الأستاذ الطريس في خطبه ومحاضراته ومقالاته، ليست من أنواع الأفكار التي يتجاوزها العصر، كما يهرف بعضهم بما لا يعرف، ممن باتوا يتصدرون الساحة السياسية والفكرية في هذه المرحلة.

إن أفكار زعيم الوحدة ونظرياته واجتهاداته لاتزال تساير العصر وتتوافق مع حياتنا الحالية من الناحيتين السياسية والفكرية، فالطريس كان مفكرا مستنير العقل، له رؤيته الواضحة إلى مشكلات الحاضر وتحديات المستقبل، وإلى العلاقات المغربية مع الجيران والأشقاء العرب والمسلمين، وله معرفة واسعة بما كان يدور في العالم في عهده، وبما يدور في عالمنا اليوم.
كما أنه مفكر إنساني ومثقف عضوي وقدوة في النضال السياسي، لم لا ؟ وهو صاحب مقولة:" لا سياسة بلا أخلاق".

أفكار الأستاذ عبد الخالق الطريس ستظل حية في عقولنا وضمائرنا، لا أقصد المناضلات والمناضلين الاستقلاليين فقط، بل أقصد المغاربة والعرب والمسلمين كافة، لأنها أفكار للمستقبل، وأفكار للحياة الحرة الكريمة، وأفكار للتحرير والاستقلال، تحرير باقي التراب الوطني، وتحرير فلسطين بقدسها الشريف، وتحرير العالم العربي والإسلامي من رواسب الاستعمار ومن ضغوطه وقيوده، ومن التخلف والتبعية وفقدان الإرادة والهوية والسيادة الوطنية الحرة والمستقلة.

هذا هو مفهوم إحياء ذكرى وفاة زعيم الوحدة الأستاذ عبد الخالق الطريس الذي يجهله الجيل الجديد، أو الذي يتنكر له من عايشوه، وهم من فئة ناكري الجميل الذي أسداه الأستاذ الطريس لوطنه وأمته، بالمفهومين الدستوري والديني معا.
 
إنه نموذج شامخ لرجل الفكر والقلم والنضال من أجل المبادئ والقيم التي آمن بها ونذر حياته للدفاع عنها، وما أحرانا اليوم أن نعود إلى الآثار الفكرية والمواقف السياسية لأستاذنا الكبير عبد الخالق الطريس، ونحن نحتفل بالذكرى 53 لوفاته، عليه رحمات الله تعالى.
 

العلم الإلكترونية: د. محمد طارق حيون - الرئيس المنتدب لمؤسسة عبد الخالق الطريس للتربية والثقافة والعلوم

 




في نفس الركن