2022 نونبر 27 - تم تعديله في [التاريخ]

في المُونْديال ينْقَطِعُ الإرْسال !

افتتاحية ملحق "العلم الثقافي" ليوم الخميس 24 نونبر 2022


العلم الإلكترونية - محمد بشكار

عيْنٌ في قَطَر وأخرى في السماء تنتظر أن تجُود بالمطر، عيْنٌ تتدحْرج مع كُرة المُونديال، وأخرى ترعى الغيوم في قمم المناخ المُعْشِبة بالثرثرة، فما الحاجة للثقافة والكُرة تدور هذه الأيام مع الأرْض بالعقول، وبركْلة قَدم واحدة وليس جرَّة قلم، تُسدِّد كل الأفكار في الشِّباك، وشتّان هنا بين المَسِّ واللَّمْس، فالأول يُصيب الرأس ويسْتدعي إطلاق صفارة إنذار ليست كاللعبة التي يلُوك الحَكَم، وما علينا إلا أنْ نرْتجل مع المُعلِّق الرياضي بعض الكلام الموزون المُقفّى بالعسَل، وهو يقول مثلا: يا سلام عليك يا قطَر ولا في الأحلام.. أمّا نحن لا نملك إلا أن نَبْعث من تحت الأنقاض الشاعر العراقي بدر شاكر السّياب، ونَصيح: يا خليجْ.. يا واهب اللؤلؤ والمحار والرّدى.. إلى آخر أنشودة المطر!   

ما الحاجة إلى الثقافة وثمّة بيننا مَنْ ما زال يتساءل هل الأرض كُروية أو مُسطَّحة، وما لهُ لا ينظر إلى حيث يضع رأسه بين أرْجُل تتلاعب بأفكارها دون هدف، لِنقُل إنّ مُسدَّس غوبلز قد تطوَّر مع انفجار الثورة التِّكنولوجية بكل أشكال التسلية المُنْكفِئة على هواتفها، أليس جوزيف غوبلز وزير الإعلام النازي في عهد هتلر من قال العبارة الشهيرة «كُلّما سمعتُ كلمة ثقافة أو (مثقف) تحسَّستُ مُسدسي »، مَنْ ما زال  يخْشى الثقافة وهي تُقتَل كل يوم بأسلحة التِّقنية الأشد فتْكاً من كل الأعْيِرة الرصاصية، وأفْظع مَظْهر أو تَجلٍّ لِجُثَثِها الجريحة، هو هذا الكم الهائل من الكتب الموؤودة إمَّا في سراديب الخزانات أو دور النّشر تأكلها الأرَضَة، ماذا اٌقول سوى أنَّ الدَّفْن تجاوز الإنسان إلى المعرفة، وهو في كلتا الحِدادَين إكرامٌ للحيِّ والميِّتْ !

كأنِّي أخشى بشبح هذا التفكير العودة للعصر المامُوثي مُتسائلاً في حيرة ماذا لو فَقَد العالم طاقة الكهرباء، ماذا لو توقَّف الأنترنيت وضيَّعْنا العلاقة بكل ما يَصِلنا بالعالم، ألنْ يتوقّف أيضاً الإرسال المبثوث من قطَر، ألنْ نفقد نصف عمرنا ونحن نُفوِّت مباريات المونديال، يا لَهوْل أن يندثر فجأة ما يجعلنا مُتشابهين كالسِّلع بأثمنة مُحَدَّدة في سوبرماركت العولمة، ما الحاجة إلى الثقافة، ما جدوى الكتب بعد أن أصبح الهواء يَصْدُر مُجلَّداً في كُرات تقفز بلاعبها للأعالي، بل ما الضَّيْر أنْ نَفْقد بموت الثقافة يد الصَّانع التي شلَّت الآلة حركتها الطبيعية، لِتحُلَّ السُّرعة ووفرة الإنتاج موضع الدِّقة والحِرفيّة والأصالة والإتقان، وما حاجتي للطَّعْم اللذيذ لخبز ينضُج على مهلٍ فوق نار الحطب، إذا كان الفُرْن الكهربائي يُلبِّي حاجيات السُّوق المُتزايِدة، ويُطْعِم ألف بطن في السَّاعة، ما حاجة الفتاة الفقيرة أو المَيْسُورة أنْ تمْتثِل لنداءات التقاليد الأُسرِيَّة العريقة وتلْتحِق بدار الصَّنائع، هل تُذبِّل عينيها في الحياكة والتَّطْريز، فقط لتُجهِّز فُسْتان الزَّفاف وباقي الأقمشة التي تُرافِق موكب السرير، بينما أشْهَر علامات الأزياء العالمية، تكْتسِح سُوق الفرح بوصلات الإشهار التي تُلْهِبُ الأضواء !

لم يَعُد الفرح للأسف يخْضَع لِمنطق الثقافة والذَّوْق الذي يجعل العروسة تحتفل بأجمل أيَّام العمر على طريقتها الخاصة، بل تشتري في  نفس يوم عُرْسها فستان الزفاف جاهزاً كما نَبْتاعُ للميِّت الكفن، ألَمْ أقُل إنَّ غوبلز لم يَعُد بحاجة لمُسدس كي يقتل الثقافة، بل إنَّنا فقدنا حتى العاطفة في مهبِّ هذه العاصفة، وقد لا يَجِدُ الحبيب ورقةً وقلماً كي يبعث أقْصَر رسالة حين يَجِفُّ الصَّبيب !

هل حقّاً ما زال بالإمْكان الحديث عن ثقافة المُجتمع، عن وسائل تأثير قوية نسْتمدُّها من خصوصِيتنا المُتَوارثة أباً عن جَد، لا أعرف كيف لهذه الثقافة أن تحتفظ بكل هذا التَّمايُز، مع اتِّساع رُقعة العولمة وتسليع كل شيء، ومع تَفشِّي شبكات التواصل الاجتماعي، ومع انتشار المراكز الثقافية الأجنبية في البلد، ومع تقديس لغة الآخر المُستعمر وتكْريس نُخْبوِيَّتِها في المنظومة التعليمية، وكأنَّ العربية لسانٌ أخرس لا يُواكب من حيث النُّطق والتَّعامُل لغة العصر، لا أعرف كيف أقول أنا ابن بيئتي والمجتمع أصْبح أضْيق من بُحيرة في مُنْتَجع !

ولكنَّني أعْرف جيِّداً أنِّي هنا خارج الطقس، ما زلْتُ أنتظر أنْ تجود السماء بالمطر، أحرِّك بالمِغْرفة حساء الثقافة، بينما وجْبة ألذ لا تصِل لبُطون الجياع، تُطْهَى الآن في قَطَر

ملحق "العلم الثقافي" ليوم الخميس 24 نونبر 2022

الملحق الثقافي.pdf  (13.35 ميغا)




في نفس الركن