2025 ماي 21 - تم تعديله في [التاريخ]

في مجاز الغيم: رحلة عبر مسجد طارق بن زياد

في موضع هامشي، بقرية "الشرافات" قبيلة الأخماس شمال المغرب، غرس طارق بن زياد بذرة نور في صخر الجبل، ومضى يشق طريقه نحو الأندلس، لا بالسيف وحده، بل بخلوة نطقت بالفتح. المسجد هنا ليس من حجارة فحسب، بل من صبرٍ مقيم، ومن إيمان صيغ في العزلة بلا ترف. في هذا الركن الخافت من التاريخ، تلتقي الرواية بالوثيقة، ويضيء الصمت بحقيقة لا تزول.


محراب طارق بن زياد: ركعة في طريق الأندلس

العلم الإلكترونية -الشرافات: الغبزوري السكناوي
 
في قلب جبال الريف، حيث تُصلّي الرياح بلغتها، وتُصغي الأشجار للذاكرة، ينتصب مسجدٌ لا يشبه المساجد، بل يُشبه عزيمة رجل يعبر من ضيق الأرض إلى فسحة الوعد، قيل إن طارق بن زياد، وهو في طريقه إلى الأندلس، توقف هنا، لا ليستريح، بل ليُصلي ركعة تفتح الأفق، وسجدة تشقّ الماء، هنا، في قرية "الشرافات" بإقليم الشاون ارتفع هذا المقام كأن الجبل تهيأ له، كأن الأرض قدّمت له حجرها الأصفى، وسَمَحت للنية أن تصير بناءً، لا مئذنة شاهقة بل رمحٌ غُرس في خاصرة السماء، ولا زخرف يُبهر بل سكينة تهزم الضجيج، وجدران من صبرٍ مشع، لا تُشيّدها الأيادي بل تُقيمها الهمم.
 
في هذا الموضع، لا تُرفع الأذان بل صيحة، ولا تُستجلب الطمأنينة بل تُستفزّ النوايا، لم يكن المسجد محض بناء، بل كان وقفة بين مرحلتين: بين أرض تُودّع، وأفق لم يُبصر بعد، حجارة هذا المقام تشهد أن الفتح لا يأتي من تخطيطٍ فحسب، بل من صفاء، من لحظة اتسعت فيها النية حتى صارت خريطة، طارقٌ مرّ من هنا، وترك ركعته كدليل، ومشى، والجبال من خلفه تُردد وصيته: من لا يُصغِ لصمت الله في الجبل، لن يسمعه في قلاع العدو، ومن لم يفتتح قلبه في الريف، لن يفتح بابًا في الأندلس.

من هذا العلوّ، من هذا الحنين المغروس في التربة، انطلقت البشارة: أن الفتح لا يبدأ من الأساطيل بل من ركعة، لا من الحشود بل من نَفَسٍ واحدة صافٍية، "الشرافات" ليست استراحة مسافر، بل نقطة تحوّل، والمسجد ليس مبنى، بل شهادة، هنا صعدت السجدات إلى العلياء كما الجند، وهنا، في قلب الريف، كُتبت أولى كلمات العبور، لا بالحبر، بل بخطو واثق وبياض نية، هذا المقام، الذي لا يُرى إلا بعين القلب، سيظلّ علامةً على أن القمم لا تُقاس بالعلوّ، بل بعدد الذين تسلقوها بأقدام من نور وقلوب من يقين، وأن الفتح يبدأ من قممٍ كهذه، حيث لا يتسلّق إلا من نذر نفسه للسُموّ.
 
هنا، في صمت القمة، حيث شدّت لجام الخيل تحت ظلال "الشرافات" استشعر طارق بن زياد ثقل الرسالة قبل أن يُرفع اللواء، لم يكن البحر يلوح بعد، لكن الأمواج كانت تضطرب في داخله، وكان يعرف أن العبور ليس من مضيق فقط، بل من خوف، من شك، من ذات قد تنكسر إن لم تتوضأ بالعزم، في هذا المسجد لم يخطب طارق، لكنه صلى، ولم يصدر أمرًا، لكنه تهيّأ، كأن الجبل كان محبسه الإختياري قبل انطلاق الحملة، وكأن كل خطوة بعده لم تكن سوى صدى لما نُحت هنا من نية لا تعرف التراجع.
 
 
كل شيء هنا يتهجّى الفتح: الريح تحمل عباءة القائد كما لو أنّه لا يزال يراجع خطّ المسير، كما لو أن طارق ما زال هنا، يمرّ كل ليلة يتحسس أطراف المكان، يراجع الخرائط، ويتلو على الجبل وصاياه، والأشجار تُومئ بما سمعته ذات فجر، والصخور تلمع تحت الشمس كأنها آياتٌ حُفرت على صفحة السماء، لا شيء فائض في هذا المسجد، لأن التخطيط كان نورًا، والتنفيذ نية، البساطة ليست فقرًا، بل أعلى مراتب الهندسة الروحية، عريٌ يقابله اكتفاء، وصفاءٌ يشبه عيون الذين نذروا أنفسهم للصلاة لا للفرجة، المسجد لم يُبنَ ليبهر، بل ليُبقي شعلةً مشتعلة في ذاكرة الطريق.
 

مسجد طارق.. عتبات الفتح في ظل الجبل

بُني هذا المسجد قبل أن تُبنى فاس، وقبل أن تُخط القرويين على الورق، أي في أواخر القرن السابع الميلادي، حين كانت المدن لم تزل حلماً في ضمير الجغرافيا، لم تكن القبيلة تعرف المدارس بعد، لكنها كانت تعرف مواقيت الضوء، وكانت تميّز بين سكون الجبل ونداء الإيمان، وحين نادى طارق: "إلى الأندلس"، لم يتردد الفرسان، تركوا معاولهم في الأرض، ورفعوا رايات لم تمحُها العواصف، "رجال النون" كما تسميهم الرواية الشفاهية، أولئك الذين شيدوا المسجد بحرف القلب لا بحرف الهندسة.
 
في ذلك الجبل الصامد، لم يكن الماء يُطلب من السماء وحدها، بل من ذاكرة الرجال ونُبل الماضين، يُروى أن أول صلاة استسقاء في المغرب أُقيمت تحت ظلال "الشرافات" وأن موسى بن نصير ركع على أديم حجارة هذا المسجد، وخلفه طارق بن زياد يهمس: "اللهم غيثًا لا ترفعه سيوف ولا تمنعه قلاع"، هنا، في هذا الركن الصامت من التاريخ، تجتمع الرواية بالوثيقة، ويشهد على ذلك ما ذكره ابن عسكر في "دوحة الناشر" حين نسب بناء المسجد إلى طارق نفسه، قائلاً إنه غرس أساساته وهو في طريقه نحو الأندلس، فاتحًا لا بالسيف فقط، بل ببذور النور.
 
هنا، لم يكن المسجد مزارًا فحسب، بل مقامًا أزليًّا، موصولًا بالسماء عبر نسيج من التراتيل القديمة، لم يكن مكانًا يؤمه الناس للصلاة وحدها، بل للتزود بمعنى الوجود، وَلِتَتَذَكَّر "الشرفات"، التي منها نبتت الفتوحات، كل من دخل عتبة هذا المسجد أحسّ أن الأرض أقدم من الطين، وأن الصوت الخارج من محرابه لا يخص المؤذن وحده، بل يخصّ التاريخ، يخصّ طارق، ويخصّ كل من وقف عند باب النور، ينتظر إذن العبور.
 

مسجد شُيّد وفق أعلى مراتب الهندسة الروحية

ليس في مسجد طارق بن زياد ما يُغري أعين السائحين الباحثين عن الدهشة الفاخرة، لا زخارف مذهبة، لا رخام يلمع تحت الضوء، ولا آيات منمقة بخط الثلث تُزيّن الجدران، كل شيء فيه أبيض، ناصع كصفحة لم تُكتب بعد، كدعاء لم يُرفع بعد، أو كقسم ينتظر أن يُنقش بخيوط الطهر، المسجد لا يُبهر من يبحث عن الزينة، لكنه يُنذر من يطلب المعنى، يقول لك من أول خطوة: هنا لا مقام للترف، بل مقام للتجرد، الحجارة جُمعت من سفوح الجبل، والطين عجنه رجالٌ كانوا يبكون ليلًا على قبلة ضائعة في بلاد القوط، ويشدّون نهارهم بجدران الخوف من التيه، كأنهم يبنون البوصلة ذاتها بين الحجارة.
 
في زوايا هذا المسجد، تشمّ رائحة الجهاد الأول، لا ذاك الذي يُسال فيه الدم، بل الذي تُغرس فيه القيم، وتُروى فيه النفوس بحبر العقيدة، الجبل ليس سياجًا طبيعيًا فقط، بل حارس قديم، جندي مرابط لا يرتاح إلا حين يسمع الآذان يتسلل بين الصخور، الطين الذي شُيّد به المسجد مخلوط بعرق المجاهدين، وبأدعية الأمهات اللواتي كنّ يطرزن قمصان أبنائهن المتجهين إلى الأندلس، جدرانه ليست شاهقة، لكنها تعلو في دلالتها، في رمزها، في صمتها العميق. وعلى أطرافه، كانت عيون الزهّاد تترصّد الفجر، وتنتظر أن تنزل البركة على من آثر الجبل على المدينة، والسكينة على الصخب.
 
في "الشرافات" قبيلة الأخماس، لم تكن هناك قصور ولا أسوار، بل يقينٌ خالص يختبئ في صدور الرجال، من تلك الأرض الفقيرة، خرج المسجد لا كتحفة معمارية تُعرض، بل كوصية غير معلنة، كعهدٍ صغير كتب في الهامش لكنه كان يحفظ قلب الأمة من الانهيار، لم يولد المسجد من ترف المال، بل من غنى الروح، من عزيمة تسكن الجبل وتعرف أن الفتح لا يبدأ من مئذنة عالية، بل من نية صادقة في خلوة متوارية، من صبر يُروى به الحلم، ومن إيمان يُصاغ من الطين والتراب والدعاء، لقد كُتب هذا البناء ليبقى، لا في ذاكرة الحجارة، بل في ذاكرة اليقين.
 

مسجد طارق .. معمار العلم بالشرافات

هنا لا تُدرّس اللغة فحسب، بل يُدرَّس الصمت أيضًا، ذلك الفاصل الرهيف بين البسملة والسلام، ذلك الذي لا يُدركه إلا من غاص في أسرار المعنى، "كراسي العلم" في هذا المكان ليست من خشب الرفاه، بل من جذر العقيدة، جلس عليها رجال لم يعرفوا التدرّج في المناصب، بل تدرّجوا في مقامات النحو والتفسير والتصوف، والتصوف في قرية "الشرافات" لم يكن انزواءً عن الدنيا، بل اقتحامًا لها بنور البصيرة، فهؤلاء الفتية الذين يحفظون القرآن من ألواح بسيطة، يخرجون كما خرج طارق ذات فجر من "الشرافات" لا بسيف، بل بسُنّة، لا بجيش، بل بأثر، لا بغزو، بل بفتحٍ يبدأ من الداخل
 
في ردهات المسجد، لا تزال الألواح الخشبية تُحمَل كما تُحمَل التروس في ساحة الجهاد، بين أيدي أطفالٍ لا يجلسون على الحصير عبثًا، بل كأنهم جيش صغير يُردّد قسم الولاء: للآية، للكلمة، للنطق المتقن، وللصوت الذي لا يخون التجويد، لا يدرسون فقط، بل يحرُسون، لا يتعلمون فقط، بل يورّثون. في وجوههم شمس، وفي ملامحهم عهد، كأنهم سلالة أولئك الذين بنوا المسجد بالصبر، ويرممونه اليوم بالصوت الواحد، بالتلاوة التي لا تخطئ همزة، ولا تُسيء إلى سكون.
 
الأطفال هنا لم يكونوا يتعلمون الحروف فقط، بل كيف يُمسكون السيف، وكيف يرفعون المصحف دون أن يسقط منهم الحياء، في كل ركعة، درس، وفي كل سجدة، امتحان، كانوا يعلمون أن العبادة لا تُؤدى بالأجساد فقط، بل بالنية، بالخضوع، بالثبات، وكان الطفل، إذا أتقن القراءة، يُؤذن يومًا واحدًا، فإن ارتجف صوته عند "الله أكبر"، أُعيد إلى الصف الأول، لا عقوبة، بل لأن التكبير لا يُنطق بلحنٍ مرتعش، بل بقلب يعرف أن الله أكبر فعلًا: من الخوف، ومن الرغبة، ومن كل ما يلهي عن الطريق.
 
في هذا المسجد، لم يكن العلم يُحفظ بالحبر، بل بالنبض، كل حجر فيه كان منهجًا، وكل صمت فيه آية، وكل ظل جدار فيه كان حاضنة لدرس، أو دعاء، أو رجفة خشوع، ومن هذه المعلمة العتيقة، انبثقت سلالة من العلماء، "حفدةُ النون والفتح" من حملوا مشاعل العلم في الليالي الحالكة، وحفظوا الكلام العزيز على ألواح خشبية كما تُحفظ الوصايا في صدور الأوفياء، يورثون العلم كما تورّث السيوف، دون أن يصدأ منها شيء.
 

ظلال طارق بين الصخور

ليس غريبًا أن يُنسب هذا المسجد إلى طارق بن زياد؛ فالرجل لم يعبر البحر فقط، بل ترك خلفه ظلالًا ترفرف على قمم الجبال، كل فجر، حين تتسلل خيوط الضوء الأولى، يُخيّل لأهل "الشرافات" أن طارق يخرج من صمت الجبل، يُراجع صفوف الصلاة كما كان يُراجع صفوف العسكر، يتفقد مواضع السجود كما كان يتفقد مواضع القتال، من هذا العلو، كان يرى البحر شمالًا ويسمع خفقات قلوب الرجال جنوبًا، أولئك الذين ما حملهم حلم الغنيمة، بل شدّهم نداء الرسالة، هنا، كان الفتح يبدأ قبل العبور، يبدأ من أعماق الصمت، ومن رجفة في القلب تُصبح يقينًا، ومن مسجد لا يلمع بالذهب، بل يشتعل بالمعنى.
 
ليس كل من وطأ هذا المكان كان يصل، بعضهم جاء فقط ليبكي، ليغسل روحه بندى الصباح، أو ليطلب إذنًا بالرحيل من عالم الصمت إلى عوالم القول، المسجد هنا ليس نهاية الطريق، بل بدايته؛ لا بوابة تؤدي إلى القرى، بل عتبة تنفتح على دواخل الإنسان، كل من عبره عرف أن الطريق الحقيقي لا يُقاس بالأميال، بل بالخلاص من التردد، وأن الطمأنينة لا تأتي من الكثرة، بل من الوضوح، وعندما تشتد العزائم، ويغيب صوت المؤذن خلف الضباب، يبقى المسجد وحده قائمًا، كأنّه حارس على باب الغيب، لا يفتح إلا لمن غسل قدميه من أثر التوجس، ومشى في درب لا رجعة فيه إلا إلى الله.
 
في زمنٍ كانت المآذن فيه تصرخ بنداءات الحرب وتهمس بأنفاس السلام، تَعَلّق مسجد طارق بن زياد كقنديلٍ في خاصرة الريف، لا من مرمرٍ بُني، ولا بالزخارف تزيّن، بل شُيّد من طين العزم، وحجارة اليقين، وعرق الذين لم يطلبوا من الله نصرًا سريعًا، بل مدَدًا طويل النفس، كان هذا المسجد فاتحةَ الأندلس، لكنه ظل ختمًا في جبين الجبل، وشهادة على أن البداية كانت هنا، في هذا الركن القصي من الريف، حين أدرك طارق أن البحر وراءه ليس ماءً، بل قدر، وأن العدو أمامه ليس بشرًا، بل امتحان
 

مسجد طارق.. نور من قلب الريف

لم يكن هذا المسجد، الواقع اليوم يجماعة "بني دركول" مَعلَمًا على طريق، بل موضعًا في خريطة الروح، من مرّ به لم يخرج كما دخل، بل خرج بشيء يشبه العهد، عهدٍ بأن العزلة ليست هروبًا، بل ذروة الإيمان، وأن الصمت في الجبل قد يكون أبلغ من الخطب، هنا، بين صخرتين ونداءين، كان النور يُلتقط كما تُلتقط القطرة في فم العطشان، وكان المارّون، من فرسان وعشاق وفقراء، يحملون من هذا المقام بوصلةً لا تُخطئ، تُشير إلى أن السجود، لا السيف، هو أوّل الطريق.
 
مسجد طارق ليس أول البناء، لكنه أول الكلمة، كلمة كُتبت لا على الورق، بل على البياض الذي في قلب الريف، وخُطّت بالبكاء الخفي في جوف ليلٍ طويل، حيث كان رجال الشرافات يتوضؤون بالحُلم، ويصلّون من أجل نصر لم يكن لهم، بل لنا، هو مقام المتعبّدين الذين قاوموا بالنور، وسلالة من لم تغرّهم القلاع، بل جذبتهم المآذن، وإلى اليوم، لا يزال الجبل يمسك بهذا المسجد كما يمسك الأب بسراج صغير من أيام الفتح، يرفعه في وجه العتمة، ويهمس للدهر: "ما دام فينا أثر، فالنور لا ينطفئ".
 



في نفس الركن