2022 فبراير 11 - تم تعديله في [التاريخ]

لا تُشَعْوِذوا ريان وتُقدِّموهُ كقُرْبان !

افتتاحية ملحق"العلم الثقافي" ليوم الخميس 10 فبراير 2022


العلم الإلكترونية - محمد بشكار

قِيل كل ما يُمْكن أن يُقال حول فاجعة ريَان، سواء مِمَّن يقف العقل حائلا بينهم وبين مشاعرهم ويفكرون من خارج القلب، أو مَنْ ينْجِرفون كتُربة قرْية إمْغران الهشَّة مع سيول الدموع المُتدفِّقة من الوجْدان !
 
لَسْتُ أفيء برأسي لجُبَّة، أو أنتظر من يُنصِّبني وليّاً صالحاً تحت قُبة، لأدعو من مُنطَلق هذه الفاجعة الإنسانية إلى اسْتِخْلاص العِبَر، أوْ أسْتغِل صَدْمة نهاية ريَان غير المُتَوقَّعة بسبب كِمِّية الأمل التي ضَخَّتْها في أفئدتنا كل المواقع، وأزيِّن للعقول المُشوَّشة اقتراب ظُهور المهْدي المنتظر، كل ما أستطيع قوله رغم تمدُّد الألْسُن قِيلا طويلا، أنَّ العالم وجَد نفسه فجأةً محشوراً مع طفل في مُنْتصف البئْر، أنَّ الزمن أصبح ثقيلا يخْنق الأنفاس والدَّقيقة تُقاس بألف عام، فما بالُكَ أنْ تتكوَّر في رحِم الأرض على هيْئَة الجنين لِمُدَّة خمسة أيام !
 
كان الموتُ أرْحَم حين سبق النَّفق المحْفُور بعناية إلى ريَان، هلْ أُبالغ إذا قلتُ إنَّ العَجْز حين يجتمع مع قُوَّة إرادة الحياة هو ما يصْنَع أحياناً المُعْجزة، خصوصاً حين تَصْدُر هذه المُقاومة المُسْتمِيتة، من طفل ركض فرِحاً ليشْتري حلوى وفي طريق عودته للبيت، أوْقَعَه القدَر في جُبٍّ أضْيَق منَ الحلقوم الذي وقفتْ عند بابه أرواحُ كلّ ساكنة العالم ينتظرون الفرَج، ألَمْ أقُلْ إنِّي لا أُنصِّب نفْسي مَسْؤولا عن الخُرافة الَّتي أُحْدَثَتْها الصَّدمة، وأنِّي أبقى عنْد شخصية ريَان دون زيادة أو شيطان، لا أريد أنْ أُفارقه كَأبٍ مكْلُوم يَحضُن جُثَّة فلْذة كبده لاعقاً الجِراح، لنْ أتجاوز ريَان لأخْتلق بدوافع انْفعالية أو افتعالية ساذجة، أساطير تُزيِّفه بكثْرة القِيل والقال، أو أجْعَل من هذه الشَّخْصية الخالدة مصدراً لِجنْي الأرباح  بكثْرة المُشاهدة !
 
لا أمْلِكُ مفاتيح الغيْب لأطَّلع على المغاليق السِّرية لِمَصْنَع الأقْدار، لا أملكُ إلا حَدْسي وما أكثر ما يُضلِّلني عسى الله يهْدِيني، ولكن أعْترف أنَّ الحيْرة التي اعْتَرتْني من نفس طينة الأسئلة التي اعْتَرتِ الجميع، أيُّ سرٍّ عظيم خلْف هذا الطفل لِيَهْتزَّ لمأساته العالم، في حين ما أكثر مآسي الأطفال التي تحدث كل يوم في أنْحَاء المعمور مع تَفاوُت درجة الخطر، لن أسْتَسلِم للخرافة التي تلعب بمشاعر الناس كما تلعب الخمرة بالرؤوس، وأنْسَاق مع أسْئِلة من قبيل هَلْ يُعْقَل أنْ يُلخِّص الرَّقم خمسة سِيرة طفل من الحياة إلى الممات، أليْسَ عُمْر ريَان خمسة أعوام، فكيف اتَّفق وأمْضى في الجُبِّ خمسة أيام، والأدْهَى في هذا الاتِّفاق الذي نادراً ما تُتْقِنه إلا عبقرية الصُّدفة، أنْ يُسْتخرَج ريَان جُثَّةً هامدة يوم خمسة فبراير، ثلاثة أحْداثٍ مفْصلِية في حياة هذا الملاك، تحْملُ نفس الرَّقْم الخُماسي، ألَمْ أقُلْ إنَّ ثمة من تجاوز الخُرافة إلى الشَّعْوذة في تحليل ظاهرة ريان، أخشى أن ينْتبِه الشيطان لمثل هذه الأفكار السوْداء، ويَسْتغِلَّها للاتِّجار بضِعاف النُّفوس وتضْلِيل الرأي العام
 
لقد أدَّى ريان رسالتهُ التي شَقِي من أجلها في حُفْرة، أدَّاها على أكْمَل وجه مُجْبَراً وليس بطلاً، صحيح أنَّ زمن المُعْجِزات انتهى، لكن ريَان ولوْ لم يَكُن نبيّاً فهو آية أرْبَكتْ منْطق البشر بِقُوَّة أعظم يجبُ تدُبَّر إشاراتها البليغة، ورغْم تَعاضُد كلّ القِوى لإنقاذه سواءً على مُسْتوى الدولة أو الأيادي التَّطوُّعية الرحيمة، إلَّا أنَّ رحمة الله كانت أسْبَق إلى ريان ولم ينْفَع تَحرِيك الجبل، هلْ أُبَالغ إذا قلتُ إنَّ ريان ذوَّب بحرارة التَّعاطُف مع مِحْنتِه الجليد بين الشُّعوب المُتناحرة سِياسيّاً، واكْتسبَ اسمُه ترْديداً عالياً في ملاعب كرة القدم، ارتسمتْ صُورته تلك الباسمة على القُمْصان واللافتات وأبْراج المُدن، ولا أعْلَمُ هلْ سَبَق أنْ اجتمعتْ ثلاثُ ديانات في الصَّلاة على جنازة واحدة، لكنَّني أعْلَم أن اسم ريان أوْرَق نديّاً مع التراتيل في القدس وأورشليم وعلى لسان بابا الفاتيكان، أعْلَم أنَّ ليلة الإعلان الرسمي للوفاة، أصبح ريَان جنازةً في كل بيتٍ على وجه الأرض، ما زلْتُ لا أصدِّق أنَّ البشريَّة لم تكُن بِحاجة إلا لِمثل مِحْنة ريان لِيخفُق قلبها بالمحَّبة والتسامح، شكراً ريان لأنَّك اسْتطعتَ أنْ تُحيي بِموتِكَ الإنسان

ملحق"العلم الثقافي" ليوم الخميس 10 فبراير 2022




في نفس الركن