العلم - بقلم رشيد مرزاق
احتشدت العائلات، بكبارها وصغارها، على رمال الشاطئ استعدادًا لتشجيع أبطالها اليافعين قبيل بداية المسابقة. كان من بينها جميع أفراد عائلتي الذين جاؤوا أيضًا للمراهنة على بطلهم المغوار الذي سيتوج رحلة التخييم البحرية بنصر عظيم، أو لنقل بذبح عظيم. كان بطلهم هو أنا، وذبحهم هو ديك بلدي سمين. فهل سيكون البطل في الموعد!؟
وُضع الديك على مسافة ناهزت المئتي متر، وحضر الحكام لتنظيم المسابقة. طلبوا منا الاصطفاف عند خط البداية. كنا نحن المتنافسين جميعا صبيان يافعين ما بين العاشرة والسادسة عشرة من العمر. وكلنا من أبناء موظفي المكتب الوطني للسكك الحديدية، أو "شمانديفير" كما كانت تسمى في ذلك الزمن من بداية تسعينيات القرن الماضي. كان الأمل يحذو كلا منا للظفر بالذبح العظيم وتشريف عائلته. لم أكن أحلم بالفوز بسبب جرح أصاب إصبع قدمي الأكبر في الليلة السابقة خلال مباراة كرة قدم. كنت قد ضمدت إصبعي بقطعة قماش ملفوفة وكسوتها بغلاف بلاستيكي أبيض (ميكا).
الرهان علي أعظم من عظمة ذلك الذبح العظيم؛ فوالدي حاضر ويشجعني بنبرة تنم عن ضرورة الفوز ولا شيء غيره؛ مما زاد من عبء "المسؤولية" وأثقل كاهلي بـ"مصير" عائلة بأكملها. فإما النصر الكبير وإما الخسران المبين.
تتعالى الصيحات والصراخ ودعوات الأمهات وتزداد معها دقات قلبي خفقانًا عند لحظة الانطلاق. أحس بعقلي وجسدي ينفصلان انفصالا تاما عن الواقع وكل ما يحيط بي. لم أعد أرى في كل العالم سوى ذلك الديك الجاثم فوق الرمال الرطبة بمياه البحر. أسمع صوتا بداخلي يناديني أن الديك يَعِدني ألّا أحد سينال لحومه أو يتمكن منه إلا أنا.. أجل أنا، ابن السيد مرزاق من مدينة ابن جرير. تدور في ذهني حوارات وتساؤلات حسبتها دهرًا طويلا وما كانت إلا ثواني معدودات: ماذا لو أضعت الذبح العظيم؟ ماذا سيكون موقفك أمام أبيك وإخوتك وكل ذويك؟ لكن ماذا لو اختار الديك أن يهدي نفسه لك أنت.. أنت دون غيرك؟ عندها ستعانق الشهرة بصفتك أسرع سبّاق شاطئي وستربح الذبح العظيم! هنالك ستنال مجدا وتدخل التاريخ من بوابة ديك.
ديك ساقه قدره الحزين من إحدى بوادي دكالة إلى رمال شاطئ الحوزية بمدينة أزمور، حيث تخيم عائلات موظفي الشمانديفير كل سنة في منتجع خاص مدة أسبوعين كاملين.
ها قد أُطلقت الصافرة. وصل الأدرينالين إلى أوجه وبلغت قلوب الحشود الحناجر. هنالك أطلقت ساقيَ للريح. كنت الوحيد من يركض.. أو هكذا خُيِّل إلي. تسارعت الخطوات وتناثرت الرمال هنا وهناك. الكل يلهث والأعناق مشرئبة إلى الديك. لم يعد السباق حكرًا علينا نحن الصبيان بل انضمت إلينا عائلاتنا جميعا. الكل يركض.. يركض.. يركض نحو الديك المسكين. وأنا أركض. نظرت إلى يميني فلم أر أحدًا من المنافسين، ثم نظرت إلى يساري فلم أجد منهم أحدًا. لم أعد أسمع الصيحات. لم أعد أرى أحدًا في هذا العالم.. سوى الديك. لا شيء غير الديك. كنت أراه وهو ينتظرني بلا حراك. بلا فزع. بلا هرولة. كان رابضًا في مكانه ليُفرد جناحيه لي فيعانقني قبل أن أنقض عليه لأعانقه على طريقتي.
إنها الأمتار الأخيرة الآن. بات تحقيق الحلم أقرب إلي من حبل الديك. وبات الديك أقرب إلى مائدة عائلتي. حافظت على موقعي في الطليعة وضاعفت سرعتي منطلقا كالسهم نحو الطريدة.
وها أنا أصل عند الديك أولا. وأخيرا. توقعت أن يهرب مني؛ وذلك كان الهدف من المسابقة وعنصر إثارتها ومتعتها. لكنه لم يتحرك بل أصر على أن يكون كمثل دجاجة "رومية" رعناء مترهلة رابضة ساكنة. لم أثق في سكونه. وقفت أدرس نيّته وخططه التي ربّما يسرّها في نفسه. دام تأملي ثانية واحدة، لكنها كانت كافية ليلحق بي متسابقان اثنان. عندئذ انقضضتُ على الديك بكل قوتي. لم يقاوم أو يحاول التملص من قبضتي. لكنّي تفاجأت بالمتسابقَين ينقضان عليَ وعلى الديك. كان هدفهما دفعي دفعًا لإفلات الديك تحت ثقلهما. كانا يريدان إجهاض حلمي. لكن الديك كان لي وليس لأحد غيري.. وكان يعرف أنه سيكون لي، وسيفي بالعهد.
أُطلقت صافرة النهاية. لقد فزت بالذبح العظيم!
لم أكد ألتقط أنفاسي حتى رأيت والدي يقف عندي وعيناه على الديك. تأكد من أنه حي يرزق ثم انفرجت أساريره. ناولته إيّاه ليحمله. فحمَله عاليًا بيد واحدة وراح يطلق صرخات الفوز والفخر وهو يلوّح بالديك مزهوًا بابنه البطل.
تنهال علينا التهاني من كل حدب وصوب. لقد صرت بطلًا! بطل في عيون الديك أولًا -وهذا هو الأهم- ثم في عيون حشود الحاضرين.. والمنهزمين. بودّي لو أطلق سراح الديك؛ ليس ليعود إلى قبضة من أسروه وجعلوا منه جائزة، بل ليعود إلى بيئته الطبيعية، إلى الحرية. لكن تجري رياح الغريزة البشرية بما تشتهيه الموائد والأطباق. فلقد تحول الذبح العظيم إلى عشاء فاخر يسد رمق العائلة في ليلة ذات مسغبة. كانت ليلتنا الأخيرة في التخييم وقد نفد مالنا وزادنا إلا من لقيمات ودريهمات بالكاد تكفينا للعودة إلى الديار الرحمانية. لذا، كان الذبح العظيم خير زاد لنا ونِعمَ التتويج لرحلة التخييم.
في تلك الليلة، أصبحتُ أشهر من نار على علم. حيثما وطأت قدماي، أسمع المديح والإطراء والتهاني. أحسستُ أنّي أحلق في سماء النجومية، جنبًا إلى جنب مارادونا وروماريو وروبيرتو باجيو والتيمومي وعزيز بودربالة. شعرت بالضيق والحرج.. وشيء من الزهو الذي قاومت وقاومت كي لا أنفخ فيه من روح الأنا الأكبر والكبرياء. ليلة واحدة من الشهرة كانت كفيلة لأن أحس بمعاناة النجوم الحقيقيين وبالمعنى الحقيقي لضريبة الشهرة! كان كل المارة يطالبونني -مازحين طبعًا- بنصيب من لحم الديك. كان التعبير يخونني في كثير من تلك اللحظات فأكتفي بالضحك أو بقول عبارة "مرحبا بيكم" وأنا أتوجس خيفة من أن يتحلى أحدهم بالشجاعة غير الأدبية فيرد بالإيجاب على دعوتي "المزورة" ويطلب مرافقتي إلى البيت لحضور الوليمة. يا إلهي كم هو قبيح الكذب حتى وإن كان أبيضَ ناصعًا!
بعد عودتنا إلى مدينتا الصغيرة -التي صارت اليوم كبيرة- ببضعة أيام، لم يعد رشيد في نظر العائلة بطلًا كما كان. فقد أُكِل يومَ أُكل الديك. كنت أُدرك ذلك؛ ولذلك كنت أرجو ألّا يُذبَح الذبح العظيم فتُذبَح معه عظَمة بطل تُوِّج في ليلة.. ليلة كان يحسبها ليلة تدوم ألف ليلة. لكنها لم تَدم إلا ليلة. ولرُبَّ ليلة خير من ألف ليلة!
احتشدت العائلات، بكبارها وصغارها، على رمال الشاطئ استعدادًا لتشجيع أبطالها اليافعين قبيل بداية المسابقة. كان من بينها جميع أفراد عائلتي الذين جاؤوا أيضًا للمراهنة على بطلهم المغوار الذي سيتوج رحلة التخييم البحرية بنصر عظيم، أو لنقل بذبح عظيم. كان بطلهم هو أنا، وذبحهم هو ديك بلدي سمين. فهل سيكون البطل في الموعد!؟
وُضع الديك على مسافة ناهزت المئتي متر، وحضر الحكام لتنظيم المسابقة. طلبوا منا الاصطفاف عند خط البداية. كنا نحن المتنافسين جميعا صبيان يافعين ما بين العاشرة والسادسة عشرة من العمر. وكلنا من أبناء موظفي المكتب الوطني للسكك الحديدية، أو "شمانديفير" كما كانت تسمى في ذلك الزمن من بداية تسعينيات القرن الماضي. كان الأمل يحذو كلا منا للظفر بالذبح العظيم وتشريف عائلته. لم أكن أحلم بالفوز بسبب جرح أصاب إصبع قدمي الأكبر في الليلة السابقة خلال مباراة كرة قدم. كنت قد ضمدت إصبعي بقطعة قماش ملفوفة وكسوتها بغلاف بلاستيكي أبيض (ميكا).
الرهان علي أعظم من عظمة ذلك الذبح العظيم؛ فوالدي حاضر ويشجعني بنبرة تنم عن ضرورة الفوز ولا شيء غيره؛ مما زاد من عبء "المسؤولية" وأثقل كاهلي بـ"مصير" عائلة بأكملها. فإما النصر الكبير وإما الخسران المبين.
تتعالى الصيحات والصراخ ودعوات الأمهات وتزداد معها دقات قلبي خفقانًا عند لحظة الانطلاق. أحس بعقلي وجسدي ينفصلان انفصالا تاما عن الواقع وكل ما يحيط بي. لم أعد أرى في كل العالم سوى ذلك الديك الجاثم فوق الرمال الرطبة بمياه البحر. أسمع صوتا بداخلي يناديني أن الديك يَعِدني ألّا أحد سينال لحومه أو يتمكن منه إلا أنا.. أجل أنا، ابن السيد مرزاق من مدينة ابن جرير. تدور في ذهني حوارات وتساؤلات حسبتها دهرًا طويلا وما كانت إلا ثواني معدودات: ماذا لو أضعت الذبح العظيم؟ ماذا سيكون موقفك أمام أبيك وإخوتك وكل ذويك؟ لكن ماذا لو اختار الديك أن يهدي نفسه لك أنت.. أنت دون غيرك؟ عندها ستعانق الشهرة بصفتك أسرع سبّاق شاطئي وستربح الذبح العظيم! هنالك ستنال مجدا وتدخل التاريخ من بوابة ديك.
ديك ساقه قدره الحزين من إحدى بوادي دكالة إلى رمال شاطئ الحوزية بمدينة أزمور، حيث تخيم عائلات موظفي الشمانديفير كل سنة في منتجع خاص مدة أسبوعين كاملين.
ها قد أُطلقت الصافرة. وصل الأدرينالين إلى أوجه وبلغت قلوب الحشود الحناجر. هنالك أطلقت ساقيَ للريح. كنت الوحيد من يركض.. أو هكذا خُيِّل إلي. تسارعت الخطوات وتناثرت الرمال هنا وهناك. الكل يلهث والأعناق مشرئبة إلى الديك. لم يعد السباق حكرًا علينا نحن الصبيان بل انضمت إلينا عائلاتنا جميعا. الكل يركض.. يركض.. يركض نحو الديك المسكين. وأنا أركض. نظرت إلى يميني فلم أر أحدًا من المنافسين، ثم نظرت إلى يساري فلم أجد منهم أحدًا. لم أعد أسمع الصيحات. لم أعد أرى أحدًا في هذا العالم.. سوى الديك. لا شيء غير الديك. كنت أراه وهو ينتظرني بلا حراك. بلا فزع. بلا هرولة. كان رابضًا في مكانه ليُفرد جناحيه لي فيعانقني قبل أن أنقض عليه لأعانقه على طريقتي.
إنها الأمتار الأخيرة الآن. بات تحقيق الحلم أقرب إلي من حبل الديك. وبات الديك أقرب إلى مائدة عائلتي. حافظت على موقعي في الطليعة وضاعفت سرعتي منطلقا كالسهم نحو الطريدة.
وها أنا أصل عند الديك أولا. وأخيرا. توقعت أن يهرب مني؛ وذلك كان الهدف من المسابقة وعنصر إثارتها ومتعتها. لكنه لم يتحرك بل أصر على أن يكون كمثل دجاجة "رومية" رعناء مترهلة رابضة ساكنة. لم أثق في سكونه. وقفت أدرس نيّته وخططه التي ربّما يسرّها في نفسه. دام تأملي ثانية واحدة، لكنها كانت كافية ليلحق بي متسابقان اثنان. عندئذ انقضضتُ على الديك بكل قوتي. لم يقاوم أو يحاول التملص من قبضتي. لكنّي تفاجأت بالمتسابقَين ينقضان عليَ وعلى الديك. كان هدفهما دفعي دفعًا لإفلات الديك تحت ثقلهما. كانا يريدان إجهاض حلمي. لكن الديك كان لي وليس لأحد غيري.. وكان يعرف أنه سيكون لي، وسيفي بالعهد.
أُطلقت صافرة النهاية. لقد فزت بالذبح العظيم!
لم أكد ألتقط أنفاسي حتى رأيت والدي يقف عندي وعيناه على الديك. تأكد من أنه حي يرزق ثم انفرجت أساريره. ناولته إيّاه ليحمله. فحمَله عاليًا بيد واحدة وراح يطلق صرخات الفوز والفخر وهو يلوّح بالديك مزهوًا بابنه البطل.
تنهال علينا التهاني من كل حدب وصوب. لقد صرت بطلًا! بطل في عيون الديك أولًا -وهذا هو الأهم- ثم في عيون حشود الحاضرين.. والمنهزمين. بودّي لو أطلق سراح الديك؛ ليس ليعود إلى قبضة من أسروه وجعلوا منه جائزة، بل ليعود إلى بيئته الطبيعية، إلى الحرية. لكن تجري رياح الغريزة البشرية بما تشتهيه الموائد والأطباق. فلقد تحول الذبح العظيم إلى عشاء فاخر يسد رمق العائلة في ليلة ذات مسغبة. كانت ليلتنا الأخيرة في التخييم وقد نفد مالنا وزادنا إلا من لقيمات ودريهمات بالكاد تكفينا للعودة إلى الديار الرحمانية. لذا، كان الذبح العظيم خير زاد لنا ونِعمَ التتويج لرحلة التخييم.
في تلك الليلة، أصبحتُ أشهر من نار على علم. حيثما وطأت قدماي، أسمع المديح والإطراء والتهاني. أحسستُ أنّي أحلق في سماء النجومية، جنبًا إلى جنب مارادونا وروماريو وروبيرتو باجيو والتيمومي وعزيز بودربالة. شعرت بالضيق والحرج.. وشيء من الزهو الذي قاومت وقاومت كي لا أنفخ فيه من روح الأنا الأكبر والكبرياء. ليلة واحدة من الشهرة كانت كفيلة لأن أحس بمعاناة النجوم الحقيقيين وبالمعنى الحقيقي لضريبة الشهرة! كان كل المارة يطالبونني -مازحين طبعًا- بنصيب من لحم الديك. كان التعبير يخونني في كثير من تلك اللحظات فأكتفي بالضحك أو بقول عبارة "مرحبا بيكم" وأنا أتوجس خيفة من أن يتحلى أحدهم بالشجاعة غير الأدبية فيرد بالإيجاب على دعوتي "المزورة" ويطلب مرافقتي إلى البيت لحضور الوليمة. يا إلهي كم هو قبيح الكذب حتى وإن كان أبيضَ ناصعًا!
بعد عودتنا إلى مدينتا الصغيرة -التي صارت اليوم كبيرة- ببضعة أيام، لم يعد رشيد في نظر العائلة بطلًا كما كان. فقد أُكِل يومَ أُكل الديك. كنت أُدرك ذلك؛ ولذلك كنت أرجو ألّا يُذبَح الذبح العظيم فتُذبَح معه عظَمة بطل تُوِّج في ليلة.. ليلة كان يحسبها ليلة تدوم ألف ليلة. لكنها لم تَدم إلا ليلة. ولرُبَّ ليلة خير من ألف ليلة!