الدوحة: التهامي بورخيص
بعد عرض فيلم " كعكة الرئيس " أو " مملكة القصب – عنوان بالعربية " بمسرح الدراما بكتارا بالدوحة، تعود السينما العراقية للواجهة، بعد سنوات طوال من الغياب عن المهرجانات الدولية الكبرى، حضرت اليوم وبقوة في مهرجان الدوحة السينمائي 2025، لتظهر أن العراق له قصصا منسية وأرشيفا لسنوات القمع والاستبداد لم يكتشفا بعد من داخل المشهد الفني العراقي، ولم تستطع عدسات الكاميرا من التقاطه والنبش فيه.
فيلم "كعكة الرئيس " وهو العنوان بالإنجليزية للمخرج حسن هادي، الذي كان قد عرض في خانة "نصف شهر المخرجين" بمهرجان كان 2025، وفاز بجائزة الكاميرا الذهبية الأفضل فيلم أول، كما شارك في مهرجان تورونتو السينمائي الدولي، وأصبح يمثل العراق رسميا في سباق جائزة الأوسكار 2026، يروي قصة طفلة تُدعى لميعة، تُكلّف بصنع «كعكة الرئيس» وسط ظروف الحصار والجوع، لتتحول مهمتها إلى صراع بين البراءة والخوف. يعيد الفيلم كشف وجوه السلطة، حيث يصبح الفرح أمراً مفروضاً، والنجاة فناً من فنون المقاومة.
تدور الأحداث في العراق خلال التسعينيات، تحت حكم صدام حسين وبعد غزو الكويت، فرضت عليه العقوبات الاقتصادية الدولية التي أدت إلى الفقر المدقع. تتبع القصة رحلة الطفلة لمياء (9 سنوات)، التي تعيش مع جدتها في مزرعة قصب جنوب العراق (في منطقة الأهوار التراثية المسجلة لدى اليونسكو).
تصطدم الفتاة لمياء باستحالة جمع المكونات (بيض، ودقيق، وسكر، وزيت ) النادرة والباهظة الثمن لصنع كعكة إجبارية احتفالاً بعيد ميلاد الرئيس صدام بالمدرسة التي تنتمي إليها، وإلا ستتعرض لعقوبات قاسية مثل السحل والإهانة.
الفيلم يستكشف مواضيع الفقر، الفساد، صعوبة العيش، والطفولة المسروقة، مع لمسة شاعرية تبرز جمال الأهوار كـ "مملكة" رمزية، ويُقال إنه مستوحى جزئياً من ذكريات طفولة المخرج نفسه. هو أول فيلم عراقي يُصوَّر داخل البلاد ويتناول بشكل مباشر سنوات التسعينيات، حين كان صدام حسين يحكم بقبضة حديدية، والعراق يرزح تحت وطأة عقوبات دولية خانقة أدت إلى فقر مدقع ونقص حاد في المواد الغذائية.
في تلك اللحظة التاريخية، وبينما كانت الطائرات الأميركية تقصف البلاد في حرب الخليج الثانية، يقدم حسن هادي أوديسة صغيرة تحمل كل ملامح الرعب الكبير. قصة تبدو سخيفة، لكنها مبنية على وقائع مرعبة، إذ يصبح الامتثال شكلاً من أشكال النجاة، والطفولة السلطوي.
الفيلم متجذر بعمق في تاريخ البلاد اليومي، من المدارس إلى الأسواق الصغيرة الكثيرة، والشوارع المرصوفة بالحصى، وسيارات الأجرة المتهالكة، والمنازل المبنية من القماش والطوب اللبن والقصب، إلى تحليق الطائرات الصاخبة والمخيفة. يتحكم المخرج بالكاميرا وتوجيه ممثليه، وجميعهم تقريباً من غير المحترفين، الذين يبدعون بمهارة في خلق إنسانية نابضة بالحياة وحادة.
يسلط الفيلم الضوء أيضا على الأمراض المتفشية في البلاد، جمود الشرطة، وإحباط وفساد بعض الرجال، والفقر المستشري. هو ليس مجرد قصة درامية؛ إنه تصوير مباشر ومؤثر لآليات الاستبداد تحت حكم صدام حسين في التسعينيات، مع التقاط آثاره على الحياة اليومية للعامة، خاصة الأطفال. حيث يصبح الشعب "زومبياً على جهاز التنفس الصناعي" كما قال المخرج هادي في أحد تصريحاته، بينما يستمر الديكتاتور في مطالباته الفاخرة. هناك مشاهد تُبرز الفساد الاجتماعي (الرشوة في المستشفيات وفي السلطة باسم الرئيس) والطبقية، مع رموز بصرية مثل صور صدام المنتشرة كـ "عين تراقب كل شيء.
المخرج حسن هادي استعاد طفولته في هذا الفيلم، ووصف تجربته بـ "شبه متلازمة ستوكهولم"، حيث كان يُجبر على الاحتفاء بصدام في المدرسة بينما هو يعاني من الجوع. الفيلم مستوحى من ذكرياته الشخصية (مثل مهمة لمياء في صنع الكعكة، التي أدت إلى طرده وانضمامه إلى "جيش الأطفال"، ويهدف إلى "استعادة جمال العراق التاريخي" رغم الظروف الصعبة حاليا ".
هادي أستاذ في جامعة نيويورك للدراسات السينمائية، ويركز عمله على "الهوية العراقية". ينتقد أيضاً العقوبات الغربية لأنها "قوَّت صدام" بدلاً من إسقاطه، مما يجعل الفيلم متوازناً: يدين الديكتاتورية دون تبرئة الخارج.
الفيلم يرصد الاستبداد بصدق تاريخي وإنساني، مستنداً إلى تجارب حقيقية، إنه تذكير على أن "الديكتاتوريات لا تدمر المباني فقط، بل الروح أيضا «، الفيلم عبارة عن "كتارسيس "ويُشجع على الشفاء الجماعي.
الفيلم صُوّر بالكامل في العراق، في بغداد ومناطق الأهوار الريفية جنوباً، في أواخر 2023 وأوائل 2024، مع بعض التحديات اللوجستية (مثل العمل مع ممثلين غير محترفين وأطفال) واختيار الأماكن المناسبة لتاريخ الفيلم.