
العلم - بقلم مصطفى السباعي
من عادتي أن أتعقب التقارير التي تصدرها المؤسسات الموثوقة وطنيا ودوليا، وقد دأبت على الاطلاع على مواقعها الالكترونية من حين لآخر. وخلال جولتي هذا الأسبوع تصفحت موقع المعهد الملكي للدراسات الاستراتيجية، حيث وجدته قد نشر خلاصات النسخة الثالثة من البحث الوطني حول الرابط الاجتماعي المنجز سنة 2023. فيما يلي محاولة لفهم المجتمع المغربي على ضوء بعض المؤشرات عن تمثلات المغاربة لمكونات الرابط الاجتماعي(الأسرة، الصداقة، الجوار، العمل والسياسة) ما بين سنوات 2011 و 2016 و2023.
من عادتي أن أتعقب التقارير التي تصدرها المؤسسات الموثوقة وطنيا ودوليا، وقد دأبت على الاطلاع على مواقعها الالكترونية من حين لآخر. وخلال جولتي هذا الأسبوع تصفحت موقع المعهد الملكي للدراسات الاستراتيجية، حيث وجدته قد نشر خلاصات النسخة الثالثة من البحث الوطني حول الرابط الاجتماعي المنجز سنة 2023. فيما يلي محاولة لفهم المجتمع المغربي على ضوء بعض المؤشرات عن تمثلات المغاربة لمكونات الرابط الاجتماعي(الأسرة، الصداقة، الجوار، العمل والسياسة) ما بين سنوات 2011 و 2016 و2023.
كِي كُنَّا..
يرى بول باسكون (1932-1985) "أن نماذج عدة من التنظيمات الاجتماعية، التامة في ذاتها، تتصارع داخل هذا المجتمع (المغربي)، لسنا أمام مجتمع معين، بل أمام مظاهر جزئية من مجتمعات عديدة تتعايش أحيانا في نفس اللحظة ونفس المكان.. ويستحق كل مجتمع من هذه المجتمعات وصفا تاريخيا. وبإمكاننا، في انتظار ذلك، جعلها تتابع هكذا: المجتمع البطريريكي، المجتمع اللاهوتي، فالمجتمع القبلي، ثم المجتمع القائدي، فالمجتمع الصناعي". ويقدم مثالا على انتماء فرد محدد، حسب سلوكاته المختلفة، إلى عدة مجتمعات في الآن نفسه. ويخلص إلى أن هناك دمجا للمجتمعات التاريخية المتعاقبة، التي لم يتبق لنا منها سوى بعض المظاهر، هي امتدادات راسخة لمجتمع سابق، أو مقدمات لمجتمع في طور البناء (طبيعة المجتمع المغربي المزيجة، مجلة بيت الحكمة، العدد 3، السنة الأولى، أكتوبر 1986). هكذا يشخص بول باسكون تركيبة المجتمع المغربي خلال ستينيات القرن الماضي. ترى ماذا تغير في هذا المجتمع منذ ذلك التاريخ؟
الأسرة.. خط الدفاع الأخير للمجتمع البطريريكي
خلاصات النسخة الثالثة من البحث الوطني حول الرابط الاجتماعي 2023 المنجز من طرف المعهد الملكي للدراسات الاستراتيجية كشفت عن حدوث قطائع جوهرية مقارنة بالاتجاهات الراسخة التي تم الوقوف عليها في النسختين السابقتين من البحث لعامي 2011 و2016، فيما يتعلق بالقطب المجتمعي، مسجلة أن تأثير العولمة الثقافية والثورة التكنولوجية على الرابط الاجتماعي آخذ في البروز بشكل أوضح في صفوف سكان المناطق الحضرية والأجيال الشابة والأفراد ذوي الرأسمال الثقافي أو الاقتصادي العالي. ورغم ذلك، خلص البحث إلى أن تغييرات هذه العوامل تبقى بعيدة كل البعد عن زعزعة التمثلات الفردية والهوية الوطنية المغربية، حيث يظل الرابط الأسري أقوى رابط اجتماعي إلى حد بعيد، بينما يبقى الرابط السياسي الأكثر هشاشة ضمن الروابط الاجتماعية الأخرى.
وفي التفاصيل، خلص البحث إلى أن 91% من المغاربة (العينة المستجوبة تضم 6000 شخص، تفوق أعمارهم 18 سنة ویتوزعون على جميع مناطق المملكة) يرون أن الأسرة لا تعد ملاذا للدعم المعنوي للأفراد فقط، بل أضحت أيضا مجالا للتكافل المادي بين أفرادها. وفيما يخص رابط الجوار يفضل غالبية المغاربة (44.8 %) "مرحبا وليبق كل واحد في بيته" أي "التيقار"، وقد سجل التعارف المباشر بين الجيران والتواصل فيما بينهم انخفاظا ملحوظا، وهو ما يؤكد النزوع نحو مزيد من التباعد الاجتماعي.
ومما يؤشر على وجود مناخ اجتماعي سلمي في العمل بالقطاعين العام والخاص هو بقاء قوة الرابط الاجتماعي في الوسط المهني مرتفعة على الرغم من الانخفاظ في نسبة المغاربة الذين يعتبرون أن علاقتهم مع زملائهم في العمل جيدة (76 %عام 2023، مقابل 88 %عام 2016) . وبالرغم من ذلك يجد رابط العمل صعوبة في إنتاج أشكال من التواصل الاجتماعي خارج الوسط المهني.
التحول نحو المادية
وعلى العكس من هذه الخلاصات كشفت نتائج البحث، فيما يتعلق بالقطب المدني، عن عدم حدوث قطائع جوهرية مقارنة بالاتجاهات الراسخة التي تم الوقوف عليها في النسختين السابقتين من البحث لعامي 2011 و2016. حيث انتقلت نسبة المغاربة الذين يرون أن أهم عامل للعيش السلمي هو تحسين القدرة الشرائية من حوالي 7% عام 2016 إلى 26.1 % عام 2023. ويستنتج البحث أن الارتفاع المفاجئ الذي تضاعف أربع مرات في غضون 7 سنوات، بين عامي 2016 و 2023 ، لسمة "التحسن في القوة الشرائية" لم يكن ليحدث لولا مشاركة الطبقات الوسطى، التي قرر بعضها الانضمام إلى الفقراء في مطالبهم. و يسلط التسلسل الهرمي للمطالب الاجتماعية التي عبّر عنها المغاربة الضوء على هيمنة المطالب المادية، بما في ذلك تحسين القدرة الشرائية والعمل للجميع. ويعد تكثيف التطلعات الاقتصادية مؤشرا موثوقا على تحول الطبقات الوسطى نحو المادية.
ويضيف بأن الفقر والظلم الاجتماعي والرشوة يعد من بين العقبات الرئيسية التي تحول دون العيش معا بسلام، على الرغم من انخفاضها بشكل طفيف مقارنة مع النسخ السابقة، حيث تتفوق هذه العوائق على المشاكل الثقافية التقليدية الأخرى مثل الفردية واللامبالاة. أما الفظاظة والتطرف الديني فقد تراجعا إلى المراتب الأخيرة.
الهوية.. "أنا مغربي" "أنا مسلم" في تراجع
وفيما شهدت علامات الهوية خارج الحدودالوطنية انتعاشا ملحوظا بين عامي 2011 و 2023: المغرب العربي ( أنا مغاربي: من 7.1 درجات إلى 7.9 درجات) وإفريقيا ( أنا إفريقي: من 6.3 درجات سنة 2011 إلى 7.6 درجات سنة 2023) والعالم (أنا كوني: من 6 درجات سنة 2016 إلى 6.7 درجات سنة 2023)، تراجع مؤشر "أنا مغربي" من 9.6 درجات سنة 2011 إلى9.4 درجات سنة 2016، إلى 8.9 درجات سنة 2023، ومؤشر "أنا مسلم" من 9.9 درجات سنة 2011 إلى9.7 درجات سنة 2016 إلى 9.1 درجات سنة 2023.
المغاربة.. والملل
أكثر ما شد انتباهي في نتائج هذا البحث، هو مدى ترسخ عادة "تقرقيب الناب" عند المغاربة، حيث أفادت النتائج أن 73.3 % من المغاربة يتصفحون شبكات التواصل الاجتماعي بدافع "سماع القيل والقال"، و78.8 % منهم بدافع "ملء لحظات الملل"، و 89.1 % بدافع الدردشة والبقاء على تواصل مع العائلة والأصدقاء. فيما يتصفح هذه الشبكات 10 % بدافع تنظيم الأنشطة السياسية، و15.3% بدافع المشاركة في الأحداث السياسية مثل المظاهرات. وقد خلص البحث إلى أن السبب الرئيسي لتصفح شبكات التواصل الاجتماعي هو البقاء على اتصال مع العائلة والأصدقاء، وملء لحظات الملل، ومعرفة الأحداث الثقافية، وما إلى ذلك.
ومن ناحية أخرى، يخلص البحث إلى أن الاستخدام السياسي للإنترنت لا يزال ضعيفا نسبيا ويظل حكرا على الأقليات النشطة التي تحركها رغبة تنظيم الأحداث السياسية. ويظهر مستوى التردد على الشبكة الافتراضية أن القضايا السياسية محدودة جدا مقارنة بالدوافع الأخرى، الاجتماعية أو المهنية أو الثقافية أو الدينية، التي تشكل في العادة السبب الرئيسي لتصفح الشبكات الاجتماعية.
الهوية الوطنية وتأثير ات العولمة
تؤكد خلاصة البحث التي تفيد بأن تأثيرات العولمة الثقافية والثورة التكنولوجية تبقى بعيدة كل البعد عن زعزعة التمثلات الفردية والهوية الوطنية المغربية، وصمود الرابط الأسري كأقوى رابط اجتماعي إلى حد بعيد، على أن المجتمع المغربي ما يزال ذا طبيعة مزيجة، جذرها الأساسي هو المجتمع البطريريكي، وعنه تتفرع باقي الجذوع/ المجتمعات المتعاقبة. وربما هو اليوم، بتأثير من العولمة الثقافية والثورة التكنولوجية يخلق مجتمعا سادسا يضيفه للمجتمعات الخمس التي ذكرها باسكون. وهذا المجتمع يتبلور بشكل أوضح في صفوف سكان المناطق الحضرية والأجيال الشابة والأفراد ذوي الرأسمال الثقافي أو الاقتصادي العالي، حسب خلاصات البحث. وقد يعلن هذا النموذج الاجتماعي الذي يتبلور، عن نفسه بإحداث ضجة، حيث يطفو على خشبة المسرح مكتمل الهيئة، ويصفي في طريقه نتوءات المجتمعات السابقة الدنيا.
وتبعا لتأكيد باسكون أعلاه على أن كل مجتمع من هذه المجتمعات يستحق وصفا تاريخيا، نترك هذه المهمة للمتخصصين.