2021 يونيو/جوان 3 - تم تعديله في [التاريخ]

نَقْضي فترة التَّفاهة !

افتتاحية ملحق"العلم الثقافي" ليوم الخميس 3 يونيو 2021.


العلم الإلكترونية - محمد بشكار 

كُلَّما هفوتُ للاسْتِمْتاع بما تبقَّى مِنْ رومانسِيَّتي، فكَّرتُ في النِّضال الذي تختلف أضْرُبُه في زمننا كما تختلف أشكال ضرْب المُناضِلين بين السِّجن والاضطهاد في الشَّوارع، ثمَّة من يُناضل لأجْل قَلْبِه لِيظْفَر بِودِّ الحبيب، وهناك من يَتسمَّر مُعْتصِماً أمام أكبر مُؤسَّسات الدَّوْلة، عسى صوته المبْحُوح يَصِل مُطالباً بِحقِّه في شُغْل يُدفِّئ الجيب، ونجد أيضاً من يُقاوِم لِيُمطِّط أجْرَه السَّقيم لآخرِ الشَّهْر وهو يَعْلمُ على مَضضٍ أنَّ مُناضِلاً أشدَّ شكيمةً منه وثورة.. لا يرضى بِغيْر أربعة ملايير سقفاً أدْنى لِرصيده مِن الثَّرْوة ! 
 
وأنا أقْضِي فَتْرة التَّفاهة، لم أجْهِد تفكيري بالبحْث في مَراجِع لأدْرِك أنَّ النِّضال رغْم تعدُّد مظاهره حسَب معْدن الرجال، ما زال في الجَوْهر أو المجْمر وثِيقَ الفتيل بالصِّراع الطَّبقي، فقط انتقل هذا النِّضَال من كُتُبٍ حمراء أو صفراء يجري في أسْطُرها دمُ الشهداء، إلى طوابق إسمنتية يشتري الإنسان أحَد سُقوفها مُقابل أنْ يَبْقى بقلقه الذي يدْفعُه أقساطاً شريداً في العَراء، أليْس في هذِه الطَّوابق التي تحْجُب كلَّ يوْمٍ عنْ أنْظَارنا رُقْعةً في السَّماء مَا يُوحي بالصِّراع الطَّبقي، ما بين ذلك الفلاَّح الَّذي جَفَّت الغيْمَة في عينيه كما ذَبُلَ العُشْب في نظرات بقراته، وسماسرة يُبيِّعونه الأرض كرهاً بأبْخس الأثْمَان ! 
 
لِكُلٍّ نِضالُه الذي يختاره لتحقيق الطُّونْدونس الذي تنْتصِر في غالب دَجَلِه الرَّداءة على الجَوْدة، أما أنا فأُقاوم فترة التَّفاهة، وهي فترة لا تعْنيني لوحدي إنَّما توجز بانحطاطها كل هذا العصر، وإلا من أيْن للمُغني أنْ يُطْرِب وقد صار مِن حقِّ النَّهيق أن يفْتح قناةً تحت إدارة اليوتيوب، مِنْ أين للرِّوائي أن يُبدع ولا يضع كلمةً إلا كما يضع المُتسابِق قدَمه على خطِّ الانطلاق مُنْتظراً صفَّارة الإعلان عن إحْدى الجوائز، مِنْ أيْنَ لِلمُفكِّر أنْ يُؤسِّس للمستقبل وقد باع حاضره بالصَّمت، مِنْ أين لذهن التِّلميذ أنْ يتفتَّح كنوَّارة الشمس وقدْ حَشَتْه تِجارة المطبوعات التربوية بما يفيد ولا يفيد، مِنْ أيْنَ لِلأستاذ أنْ يبْتكِر حين يكتشف في أوَّل شهْرٍ بِسِلْك التَّعْليم الكهربائي، أنَّ أفُقَه المعيشي أقْصَر من المسافة التي تَفْصِلُه عن السَّبُّورة السوداء، بلْ مِنْ أين لي أن أتجاوز انْسِلاخ اليرقات لِمثْل هذه الشَّرْنقة ضامناً أنْ لا يكون مصيري أشدَّ إيلاماً من السَّلْخ! 
 
هَلْ أحْتَاج الجزْم أنَّ كل الأحلام ضاقت في ذهنية الإنسان، وأنَّ القيمة أصْبَحتْ تُقاس بما يَكْسِبه المرْءُ أو المرأة على المُباشر من أرقام، وتكفي البعض لتحقيق الشهرة حركة خفيفة بالمؤخرة، مَن ينْكُر أنَّ هذه المُنافسة التي تُبْذَل في مِنصَّاتها الرَّقمية الأجساد وليس فقط المُهَج والأرواح، تُعْتبر أيضاً من النِّضالات التي يَتدرَّج صِراعها عبْر طبقات اجتماعية من الشُّحوم والبقاء لِمَنْ تَسْتقطب المُشاهدة بالحجْم الأكْبر، مَنْ ينكُر الدَّجل الذي أُمارسه على مُخيِّلتي على طريقة مائة عام من العزلة في محاولةٍ فاشلة لأجْعَل السِّحْر ينطلي على الواقع، ولا أمْلك للانعتاق منْ مُحيط يُسَيِّدُ التافهين إلا أنْ أفتح عيْنيَّ وأُسْدِلهما على كِتاب ما زال يُعلِّمني أن الورق يصنع الأقوياء ! 
 
هكذا أقْضي فترة التَّفاهة وأنا أُنَاضِل ضِدَّ مَنْ يُناضِل لِيُكرِّسها في حياتي، مُحاذِراً أنْ لا أقع ضحيَّة هذه الصِّناعة الرَّقمية الثَّقيلة، فهي على مدار أربع وعشرين ساعة ليلَ نهارٍ تَعْرِض كل ما تُريده من الحياة مُعَلَّباً في هاتف، ماخورٌ كبير يَسْتفْرِغ القلب من الحُبِّ ويَحدُّ في العقل أفق التفكير، وما حاجتي للآخر، ما حاجتي للأخ أو الأخت، ما حاجتي للصَّديق، ما حاجتي للعاشق أوْ المَعْشُوقة، ما حاجتي للمطبخ، ما حاجتي للمدرسة، ما حاجتي للمُجْتمع، ما حاجتي لكلِّ هذا الضَّغْط النَّفسي ما دام الحصول على ما أٍريد لن يُكلِّفني إلا الضَّغط على زِرْ !
 
حقّاً تخْتلفُ أضْرُبُ النِّضال في زمني الذي يتَّخذ سياسياً أكثر من لون، لكن نحن اليوم أحوج لنِضَال يُعَلِّي مِنْ قيمة الإنسان الذي يَستحِقُّ ردَّ الاعتبار، وما توزيع أوْسِمة النُّجُومية على مَنْ يُكرِّسون التَّفاهة في مُختلف أصْعِدة المجتمع المدني، سوى احتقار لهذه القيمة سواء الفكرية أو العلمية أو الفنية أو التربوية، وما تَفسُّخ البلدان حضارياً وترهُّلها اقتصادياً أو بطنياً، إلا لأنَّ البعض مِمَّنْ انفلت حزامهم من الإبزيم، وضعوا صانعي التَّفاهة في الصُّفوف الأولى، فحوَّلوا المجتمع لسيرك كبير كان أجْدَر أن يُسمَع فيه صوت العقل بعلمه وأدبه واختراعاته في كل العلوم من الطِّب إلى السلاح، عِوض الانهمار بالتصفيق في كلِّ سطْلٍ فارغ !
 
فماذا نصنعُ غير أن نقضي ما تبقى من عقوبة فترة التَّفاهة في انتظار أن يُحَال الجيل الذي صنعها على المَعَاش أو الممات، ماذا نمْلكُ غير أن ننتظر فترةً أخرى تُسمَّى النقاهة وتأتي غالباً بعد مرض أصاب بفساده الجميع في البلد، ورغم أنَّ مكاني مع الشَّعب محجوزٌ سلفا لخير خلف في الكراسي الأخيرة لهذا السيرك الكبير، فأنا كالجميع مُضْطرٌّ أن أتفرَّج وأنتظر بعد الفيل دخول خليلته الفِيلَة، ألم أقُل إني فقط أقضي فترة التفاهة ! 
 

ملحق"العلم الثقافي" ليوم الخميس 3 يونيو 2021.




في نفس الركن