2022 دجنبر 29 - تم تعديله في [التاريخ]

وَحَم ثقافةٍ بدون رَحِم!

افتتاحية ملحق"العلم الثقافي" ليوم الخميس 29 دجنبر 2022


العلم الإلكترونية - محمد بشكار

أصبح الحديثُ عن الثقافة بكُلِّ اشْتهاءاتِها التي تكون أحياناً مُقْرِفة، أشبه بوَحَم امرأةٍ بدون رحم، أو لمْ تر كيف تُنْتج نفسها بنفسها بأنابيب التلقيح الاصطناعي، ومن أين لِرحمها الولُود، ذلك الانتفاخ البُركاني الأجمل، بعد انقراض المُثقَّف الفَحْل !

الثقافةُ قبل كل شيء سلوكٌ ومعرفة، وليست مُجرَّد تحريكٍ للحسَاء بالقلم أو المِغْرفة، ولكن ما هي منابع تدفُّقها الحيوي اليوم، أو بالأحرى من يُنْتج كل الأشكال التعبيرية للثقافة، هل الإنسان أمْ تستنْبِتُها المُوَلِّدات التِّكنولوجية بجودة عالية وتحديثٍ مُسْتمر، فقط لا تنْسَ أنْ تنْقر الجَرَس ليأتيكَ دائماً الجديد الذي ينْفخ الرأس !

شتَّان اليوم بين أن تسْتهلكَ الإنتاج الثقافي الغزير، وأنْ تكونَ مُثقفاً، كُنّا نبحث عن الثقافة في بُطُون الكُتُب، نُكابِد مُسافرين من خزانةٍ لأخرى عبر المُدن، تماماً كما تتنقَّل بالرَّشْف النَّحْلة من زهرة إلى زهرة، نبحثُ مأْسُورين بجمالية الحرف، عن رحيق المعنى الضَّائع بين السُّطور، اليوم أصبحت الثقافة محمولةً في الهواتف والحواسيب كالميِّت على النَّعْش، ولا حاجة لِتخْزينها في العُقول، يكْفي أن نَطْرح السُّؤال على مُحرِّك البحث (غوغل) لِنظْفر بما نُريد ونُحلِّق دون ريش !

لا نستطيع اليوم القول بوجود مُثقَّفٍ حقيقي بالمفهوم الموسوعي، ولكن يُمْكننا الحديث عن الثَّقافة التي تُنْتِج نفسها بنفسها دون حاجة للتفكير، لِنقُل إنَّ مُسدَّس (غُوبلز) قد أصاب المَقْتل دون أن يُطْلق رصاصة واحدة، ولسْنا نُبالغ أو نزيد في طول اللسان  وعرْضِه إذا قُلنا بموت (الإنسان المثقف)، ولأنِّي أعْلم أنَّ سُوء الفَهْم وارِدٌ وثمّة من يعتبره نقداً مُضادّاً يُؤشِّر إلى يقظة الوعي، فقد أعلنتُ موت (الإنسان المثقف) بين قوسين، ولستُ أعْني بهذا الأخير الأكاديمي أو المفكر أو الأديب أو العالِم أو حتى رجل الدين، لا أقصد هؤلاء الذين ما كانت أسماؤهم لِتطْفو للسَّطح دون كَدْحٍ ثقافي، عِلْماً أنَّ أغلب المعادِن الصَّلْبة اتَّضح مع الأيام أنَّها مُجرَّد رمادٍ باردٍ كالذي وصَفه «بيير بورديو» في كتابه  «ضد النيران»، ألم يُهاجِم المُثقَّفين الذين لا يُجيدون سوى اللَّعِب المدرسي، يَنْغلِقون داخل دفاعاتٍ كلامية هرباً من الحِوار العقلاني، بلْ إنَّهم يغُضُّون الطَّرْف عن الواقع باقتراح أوْهامٍ تحْترِف الفِرار للأمام  وتُسَمى «ما بعد الحداثة»،  يا له من مُصْطلح مِغْناجٍ لَعُوب، كأنه يُشْرع بوّابة المدينة الفاضلة، ادخلوها بسلام أيها الأتقياء في أبراجٍ عاجيةٍ دون نصَبٍ أو لُغُوب !

إنَّما أقصد بـ (الإنسان المُثقَّف) عامَّة الناس، وكيف انقرضت بعضُ عاداتهم الصّغيرة التي تُجمِّلُ الحياة، مثل القراءة، ارتياد قاعات السينما والمسارح والمعارض والمتاحف، والانخراط في معاهد الموسيقى، وحضور النَّدوات والأماسي الشِّعْرية، لَمْ يَعُد بِمقْدورنا اليوم التَّحَدُّث عن المثقف كمعرفة تمشي على الأرجل، أو نَنْبَس بالثقافة كسُلوك يومي وِفْق التَّصوُّر التقليدي إلا في ما نَدَر، لا أحد يُريد أن يَخْدش بكارة ذاكرته ولو بِتخْزين معلومةٍ واحدة، وإذا أراد أن يُبلْور فكرة أو يُنافِح عن أطروحة، تجده دائماً خشية أن يقع من الأعين، يعْتكز حاسُوبَه أو هاتفه الذَّكي الذي يُؤرخ  لِغَباء الإنسان المُعاصر، بَلْ الأغلبية يقولون ما جدوى أن نَعْرف ما دُمْنا نملك وسائل تعْرِف بَدَلَنا، منها (غوغل) وكل شبكات التواصل أو التَّكاسُل الاجتماعي من فيسبوك إلى  تويتر انتهاء بالأنستغرام، يكفي المرء أن يُتْقن بدقّة وخِفّة كيفية استعمال الأزْرار، لِتُلبِّي هذه الوسائل التكنولوجية كل الخدمات دون أنْ يَبرح عتبة الدار!

هكذا عِوض أن يُنتج الإنسان الثقافة تُنْتِجه القوالب الجاهزة بالعقلية التي تُريد، هنا فقط حَوْلَ أثافي هذه النقطة أو الحُفْرة السّحيقة، يتَّسع القطيع الذي يجْترُّ منتوجا ثقافياً يخضع لمنطق (إعادة الإنتاج)، وهو المفهوم الذي شَحَذ مشْرَطه المُفكِّر السوسيولوجي الفرنسي «بيير بورديو» فلم يُخطئ موضع الدَّاء، وأقصد النظام التعليمي الهجين وهو يحشو الأذهان الفتيَّة بتكرار نفْس العجين، كيف لا وذات المناهج التعليمية تُطبَع عند كل دخول مدرسي، فقط تتغيَّر أغلفة المطابع والصُّور المُرافِقة للنُّصوص، وليس ثمّة أخطر من التواطؤ على عقل التلميذ لتحقيق أرْباحٍ مادية، ويَتحمَّل مسؤولية هذا العُنْف الرَّمْزي النظام التربوي بكل أجْهِزته الرَّسْمية الوصيَّة على تهييء وإصدار المُقرَّرات الدِّراسية،  وعِوض أن ينْحُو إلى الحكمة في تدبير عجلة التنمية التي تحتاج لكفاءات لا تُقتَل في المَهْد، يُحرِّك آلة الانتفاع لِدور النَّشر ومُشْتقَّاتها التي ترْضع في كل موسم دراسي من نفس الضِّرْع، يا لَخراب العقل المغربي، يخضع لِصناعةٍ بالية على طريقة الرُّوسِيكْلاج، ويُفرِّخ أجيالا بطَبَعَاتٍ مُتشابِهةٍ تُشوِّهُ حتَّى الأصل !

ملحق"العلم الثقافي" ليوم الخميس 29 دجنبر 2022




في نفس الركن