
بخطى حثيثة تزداد تسارعا ينتقل العالم من نظام أحادي القطب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية إلى وضع جديد قد يكون متعدد الأقطاب، أو نظام مختلف ينبعث مما سيتبقى من عالم بعد حرب عالمية ثالثة.
في المرحلة الحالية مع حلول الربع الأخير من سنة 2025 يظهر أن قادة الغرب الحاليين في غالبية دول أوروبا والولايات المتحدة غير مستعدين أو غير مقتنعين بأن استمرار النظام الأحادي القطب محكوم عليه بالزوال، ويؤمنون أنه من الممكن تعديل المسار وإلحاق الهزيمة بالقوى التي تسعى للتغيير ولو كان ذلك بركوب مخاطر حرب نووية عالمية.
حرب إسرائيل على الشعب الفلسطيني ومشروع إسرائيل الكبرى، والحروب المباشرة أو بالنيابة في سوريا ولبنان وإيران والسودان وليبيا واليمن وجهود زعزعة الاستقرار في الساحل الأفريقي والمغرب العربي، والمجازر البشرية التي تمولها الشركات المتعددة الجنسية التي تستغل ثروات ما يوصف بدول أفريقيا السوداء ليست سوى جزء من استراتيجية الغرب لمنع انهيار هيمنته ومواصلة اغتنائه على حساب الشعوب الأخرى.
تعتبر السياسات الحمائية التي اعتمدتها الإدارة الجمهورية في ظل رئاسة ترامب مدخلًا لمواجهة مباشرة بين بكين وواشنطن، مما قد يؤدي إلى صراعات لحسم انتقال النظام العالمي.
كما أن هناك توقعات بتصاعد المخاطر الجيوسياسية، خصوصا في منطقة الشرق الأوسط، بسبب الصدام المحتمل بين واشنطن مع كل من موسكو وبكين.
النظام العالمي الأحادي القطب الذي ساد بعد إنهيار الاتحاد السوفيتي في بداية عقد التسعينيات من القرن العشرين قام على تفوق القدرات العسكرية والاقتصادية الأمريكية المعززة بالتحالفات الأوروبية، ولكن هذه الوضعية لم تكن مستدامة، حيث استطاعت روسيا بقيادة بوتين الخروج من مسار الانحدار والتفسخ، وخلال ثلاثة عقود تمكن الكرملين من استعادة معادلة الردع العسكرية مع الغرب. الصين واصلت صعودها الهادئ اقتصاديا وعسكريا متجاهلة محاولات استدراجها إلى مواجهات مكلفة اقتصاديا عسكريا في انتظار اكتمال عناصر القوة التي تمكنها من خوض مواجهة مصيرية مع الغرب.
دول ما يسمى بالعالم الثالث سواء في الشرق الأوسط أو أفريقيا وأمريكا الجنوبية شرعت في الكثير من الأحيان بخجل وبطء في التحرر من إملاءات البيت الأبيض. سياسة الهيمنة والتسلط الأمريكية تجاه بقية دول العالم حتى مع من كانوا يعتبرون حلفاء لها كانت مكلفة اقتصاديا، وقد سقطت واشنطن هنا في وهم القوة المطلقة فأنفقت مئات بل آلاف ملايير الدولارات ولكن على حساب دول العالم بأوراق خضراء تطبع بدون تغطية أو في شكل سندات دين.
وقد تجاوز إجمالي الديون الأمريكية رسمياً حاجز الـ37 تريليون دولار لأول مرة في التاريخ، بحسب بيانات وزارة الخزانة الأمريكية. ويرفع هذا إجمالي الديون الأمريكية إلى 780 مليار دولار منذ رفع سقف الدين عقب توقيع قانون «مشروع القانون الكبير الجميل» في 4 يوليو 2025.
وأصبح على الولايات المتحدة سداد 9000 مليار دولار من الديون وفوائدها خلال السنة المالية 2024 – 2026. وحسب تقرير لمكتب إدارة الدين في وزارة الخزانة، ورد أنه اعتباراً من الثلاثين من أبريل من عام 2025، تبلغ نسبة الديون التي تستحق السداد خلال عام 2026 من إجمالي الدين العام 31.4 في المئة. يعادل مقدار الديون المطلوب إعادة تمويلها حوالي 11 تريليون دولار. مع العلم أن الحكومة الأمريكية تضيف كل 100 يوم 1000 مليار دولار إلى ديونها.
الدين العام العالمي تجاوز 100 تريليون دولار بنهاية عام 2024، وفقا لصندوق النقد الدولي، وهو أعلى من القيمة الإجمالية للأموال المسجلة عالميا المقدرة بـ 80 تريليون دولار وفقا لمنصة "وورلد ببيوليشن ريفيو". ويتوقع الصندوق أن ترتفع الديون إلى مستوى يعادل 100 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي بحلول عام 2030.
وتشكل ديون الولايات المتحدة الجزء الأكبر من هذه الديون، حيث بلغت في عام 2024، ما يعادل 34.6 في المئة من الإجمالي العالمي، استنادًا إلى بيانات وزارة الخزانة الأمريكية.
وعلى الرغم من تحذير وزيرة الخزانة الأميركية السابقة جانيت يلين في يناير 2023 من مخاطر استمرار ارتفاع الديون، إلا أن الحكومة الأمريكية واصلت الإنفاق الجنوني.
صعود الصين
جاء في تقرير نشرته وكالة "دي فيلت" الألمانية في برلين يوم السبت 6 سبتمبر 2025:
قمة ثلاثية جمعت الرئيس الصيني بنظيريه الروسي والكوري الشمالي، اختتمت بعرض عسكري مهيب في بكين، رسم ملامح نظام عالمي جديد يتحدى الهيمنة الأمريكية. فكيف نجحت الصين في صعودها المذهل وخداع الغرب بهدوء خلال ثمانية عقود؟.
"لا يمكن إيقاف الصين"، تحذير كان من أبرز ما قاله الرئيس الصيني شي جينبينغ خلال عرض عسكري ضخم توسط خلاله الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون، توج أسبوعا من النشاط الدبلوماسي للرئيس شي وحلفائه في مواجهة الغرب. الرسالة كانت واضحة وضوح الشمس في النهار واستعراض للقوة يتحدى الهيمنة الأمريكية في وقت حساس تجتازه العلاقات الدولية. ففي صورة مثيرة، توسط الرئيس شي نظيريه من كوريا الشمالية كيم جونغ أون، والروسي فلاديمير بوتين أثناء العرض العسكري في بكين الثالث من سبتمبر 2025
وأظهرت مشاهد غير مسبوقة، لشي وهو يتحدث إلى ضيفيه أثناء المشي على السجادة الحمراء في ساحة تيان أنمين في بكين. المناسبة كانت إحياء ذكرى مرور ثمانين عاما على انتهاء الحرب العالمية الثانية، استغلتها الصين لبعث رسالة لا يشوبها الغموض وهي نهاية هيمنة الأحادية القطبية للغرب على العالم، حيث حذر شي في مستهل خطابه، من أن العالم "يواجه خيارا بين السلم والحرب". مشاهد بالغة الرمزية تُسرع إعادة تشكيل التوازنات الجيوسياسية الكبرى في العالم. إنه تحالف جديد في طور التبلور، قد يطبع هذا العقد وربما يترك بصمته على القرن الحادي والعشرين برمته. فالأمر لم يكن مجرد استعراض للقوة، بل إعلانا صريحا عن تعاظم الروابط بين أنظمة تقف في مواجهة صريحة ضد الهيمنة الأمريكية.
صحيفة "سيدني مورنينغ الأسترالية في الثالث من سبتمبر رأت في هذا المشهد "تجسيدا حيا لما بات يوصف بين المحللين الغربيين بـ"محور الاستبداد"، حيث تجتمع قوى معاقبة ومنبوذة من الغرب في جبهة واحدة، محور يقوم على العداء المشترك للولايات المتحدة ونظامها الدولي الليبرالي. ولمن يجدون أنفسهم على هامش النظام العالمي الحالي، من دول وقادة وشعوب، تبدو الصين كقوة ملهمة، أو ربما كمرشد جديد لعالم تتعدد فيه الأقطاب وتتراجع فيه سطوة القوة الأمريكية التقليدية. صعود بكين لا يعِد فقط بنظام عالمي جديد، بل بمنظومة قِيَمية مختلفة، تتحدى النموذج الديمقراطي الغربي، وتطرح بديلا قد يبدو أكثر جذبا لبعض الدول التي تبحث عن الاعتراف والدعم خارج المظلة الأمريكية. ومع ذلك، لا تزال الأسئلة مطروحة بشأن مدى عمق هذا التحالف الجديد: هل كان العرض العسكري مجرد استعراض بصري للقوة، أم أنه يمثل نقطة تحول استراتيجية حقيقية؟ المستقبل وحده، تقول الصحيفة، هو من سيجيب على هذا السؤال".
كيف أصبحت الصين قوة عظمى؟

صعدت الصين بهدوء وصمت مثيرين إلى مصاف القوى العظمى العالمية، من خلال استراتيجية شاملة ومدروسة بعناية فائقة، بدأت أواخر سبعينيات القرن العشرين، حين شرعت في فتح اقتصادها تدريجيا على الاقتصاد الحر بقيود منظمة، وركزت على التصدير وجذب رؤوس الأموال الأجنبية. هذه الخطوات لم تؤد فقط إلى نمو اقتصادي مذهل، بل أرست أيضاً أسس قوة شاملة تتجاوز الاقتصاد إلى التأثير السياسي، الدبلوماسي والثقافي على الصعيد العالمي. فقد تمكنت الصين بسرعة فائقة من الاندماج في طرق التجارة العالمية، قبل الشروع في بناء شبكتها الخاصة من النفوذ عبر مشاريع بنى تحتية طموحة مثل مبادرة "الحزام والطريق".
مبادرة عززت مكانتها كقوة تجارية عالمية مع ضمان الوصول الاستراتيجي إلى الموارد الحيوية وأسواق الطاقة حول العالم. وبات الغرب يعتمد اليوم بشكل واسع النطاق على الصين في قطاعات حيوية مثل الاتصالات وأشباه الموصلات والمعادن النادرة والأدوية وعدد من القطاعات الأخرى، فتحولت خلال بضعة عقود من دولة نامية مقلدة للمنتوجات الغربية إلى قوة عظمى. فالأمر لا يتعلق فقط بصعود اقتصادي وإنما أيضا بإعادة رسم هادئة لنظام النفوذ العالمي. مشاهد استعراض القوة الذي أظهرته الصين للعالم يتجاوز مجرد ذكرى نهاية الحرب العالمية الثانية. صواريخ فرط صوتية عابرة للقارة ومسيرات حربية وآلاف الطائرات المروحية برسالة واضحة تقول: "لا أحد بإمكانه إيقافنا".
أي وزن لأوروبا في المعادلة الجديدة؟
سارع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى اتهام نظيره الصيني بـ"التآمر" ضد بلاده مع الرئيسين الروسي والكوري الشمالي. وكتب في منشور على منصته "تروث سوشال" "أتمنى للرئيس شي ولشعب الصين العظيم يوما رائعا من الاحتفالات (..) "أرجو منكم إبلاغ أطيب تحياتي لفلاديمير بوتين وكيم جونغ-أون بينما تتآمرون ضد الولايات المتّحدة".
وذهبت وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي كايا كالاس في نفس الاتجاه ووصفت المشهد بأنه "تحد مباشر للنظام العالمي القائم على القواعد"، محذرة من بناء "نظام عالمي بديل" معاد للغرب. وأضافت "أوروبا أمام تحد وجودي. علينا أن نبني قوتنا الجيوسياسية ونستخدمها. شئنا أم أبينا، نحن في معركة من أجل الحرية".
ومن نيودلهي التي انضمت إلى التحالف الصيني الروسي الكوري الشمالي والإيراني، صرح وزير الخارجية الألماني يوهان فاديبول تضامن بلاده مع دول أخرى "في ضرورة الدفاع عن النظام الدولي القائم – حتى لو استدعى الأمر مواجهات مع الصين".
وبهذا الصدد كتبت صحيفة "لا كروا" الفرنسية في الثالث من سبتمبر متسائلة "هل ستصبح الصين محور نظام عالمي جديد يمكن أن يوحد الجنوب العالمي ضد الهيمنة الغربية؟ كان هذا هو الهدف المعلن لرئيس الدولة الصيني شي جينبينغ في عطلة نهاية الأسبوع خلال قمة منظمة شنغهاي للتعاون. في هذا الصراع الذي يذكر بالحرب الباردة، والذي تتواجه فيه أكبر قوتين اقتصاديتين في العالم، الصين والولايات المتحدة، تظهر أوروبا بمظهر باهت. (فعلى سبيل المثال لا لحصر) فرغم كل الجهود لتأمين مكان لها على طاولة المفاوضات، تظل غير مسموعة الصوت في صراع أوكرانيا، وقد تم بالفعل كبح طموحها في فرض عقوبات على البرنامج النووي الإيراني".
تحدي للنظام الغربي
تيان أنمين، الساحة التي ارتبط اسمها غربيا بما سمي قمع الاحتجاجات الطلابية في الصين عام 1989، تحولت إلى منصة لاستعراض تحالف عسكري- سياسي يتحدى الغرب بشكل واضح، فيما يشبه حربا باردة جديدة. كما أن قمة تيانجين، التي عقدت خلال يومين بحضور نحو عشرين من رؤساء الدول وحكومات من أوراسيا، تأتي في إطار لعبة جيوسياسية شاملة، تلوح بتعددية قطبية غير غربية، غير أنها تخفي أيضا مساع لأحادية صينية، تقوم اقتصاديا على مبادرة "الحزام والطريق". ومنذ انهيار الاتحاد السوفييتي لم يكن الاستقطاب العالمي بهذا الوضوح.
وبهذا الصدد كتبت صحيفة "لي ديرنيير نوفيل دو لالزاس" الفرنسية في الثاني من سبتمبر معلقة "كان من السهل على شي جينبينغ وفلاديمير بوتين مهاجمة الغرب مباشرة. فقد ندد الرئيس الصيني بـ′عقلية الحرب الباردة′ و′محاولات التخويف′ من قبل واشنطن، بينما أعاد نظيره الروسي اتهام الغرب بأنه هو من أدى لاندلاع الصراع في أوكرانيا. وبما أن استعراض القوة لا معنى له دون وجود خصم، فإن الصين تسعى إلى الاستفادة من المشاعر المعادية للغرب، التي تنتشر في الجنوب العالمي والدول غير المنحازة. وهي تفعل ذلك بهدف الإطاحة بالولايات المتحدة، وإعادة تشكيل التجارة الدولية، ومراجعة النظام القيمي الغربي لدى نصف سكان العالم".
على ترامب أخذ رسالة الرئيس الصيني بجدية

العرض العسكري الذي ترأسه الرئيس شي سبقته قمة منظمة شنغهاي للتعاون، كان عنوانها تكريس الشراكة الاستراتيجية بين الصين وروسيا وبقية دول بريكس ومن بين فصولها تأسيس تكتلات موازية للتحالفات الغربية على شاكلة حلف الناتو. وإلى جانب الرئيسين الروسي والكوري الشمالي، حضر العرض زعماء دول أخرى، بينهم قادة إيران وباكستان والهند ورئيس بيلاروسيا ألكسندر لوكاشينكو.
وزارة الخارجية الصينية أكدت أنها لا تستهدف أي طرف ثالث أثناء تطوير العلاقات الدبلوماسية مع الدول الأخرى، ردا على تعليق الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بأن الصين وروسيا وكوريا الشمالية تتآمر ضد الولايات المتحدة.
وبهذا الصدد كتبت صحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية في الرابع من سبتمبر معلقة "إن قرار بكين إظهار قوتها العسكرية في الذكرى الثمانين لنهاية الحرب العالمية الثانية أمر لافت للنظر. فمحور الخصوم يسعى إلى إعادة كتابة تاريخ العالم منذ عام 1945، والتقليل من الدور الفريد الذي لعبته الولايات المتحدة في إنهاء تلك الحرب وبناء النظام العالمي الذي تلاها. إن هذا التفسير التاريخي المراجع هو جزء من هدف أوسع يتمثل في إعادة ترتيب ميزان القوى العالمي لكن، ما هي استراتيجية ترامب؟ إنه يأمل، من خلال دبلوماسيته الشخصية مع مختلف الديكتاتوريين، في إبرام اتفاقات بشأن قضايا متعددة. غير أن خصوم الولايات المتحدة متفقون فيما بينهم، بينما يغرق ترامب حلفاء أمريكا بسيل من الرسوم الجمركية. إذا لم يأخذ ترامب الأمر على محمل الجد، فإنه يضع الولايات المتحدة في موقف قد تخسر فيه صراعا مسلحا، يبدو أن هذا المحور من الخصوم مستعد له بشكل متزايد".
صعود الصين العسكري
نشرت مجلة "فورين بوليسي" الأمريكية مقالا تناول صعود الصين العسكري والتكنولوجي وتحولها من دولة تتهم بتقليد الغرب وسرقة ابتكاراته إلى قوة رائدة ومبتكرة في مجالات متعددة، بما فيها التكنولوجيا العسكرية.
وجاء في المقال: يقر الجميع الآن على نطاق واسع بأن السردية التي اعتادت الدول الغربية أن ترويها لنفسها حول تطور التكنولوجيا في الصين، بأنها مجرد مقلد للتكنولوجيا الغربية، وأنها تسرق الملكيات الفكرية، وأن نجاحاتها نتيجة لدعم حكومي غير فعال، لَم تعد كافية، فالصين اليوم تعد مبتكرة وقائدة تكنولوجية في مجالات الروبوتات، والمركبات الكهربائية، والمفاعلات النووية، والطاقة الشمسية، والطائرات المسيرة، والسكك الحديدية والقطارات الفائقة السرعة، إضافة إلى الذكاء الاصطناعي.
وإذا كانت هناك حاجة إلى التأكد من ذلك، فإن العرض العسكري الذي جرى في بكين يوم 3 سبتمبر 2025 يحسم وجوب إضافة التكنولوجيا العسكرية إلى القائمة السالفة. ولم يعد كافياً القول إن جيش التحرير الشعبي يحاول اللحاق بالركب أو أنه ينسخ تصاميم المعدات العسكرية الأجنبية، فالصين الآن تبتكر، وهي تقود. ونتيجة لذلك، فإن ميزان القوى العسكرية الإقليمي، الذي ظل لعقود يميل إلى مصلحة الولايات المتحدة وشركائها، يشهد الآن تغيراً لا رجعة فيه.
كان عرض يوم النصر، الذي يصادف الذكرى الـ80 لـ"مقاومة الشعب الصيني للعدوان الياباني الفاشي خلال الحرب العالمية الثانية"، استعراضا لقوة الصين العسكرية المعاصرة، ورسالة عن اتجاهات تطورها المستقبلي، فبعدما كانت الصين متحفظة في السابق عن الكشف عن أحدث معداتها العسكرية، أزيحت الستارة الآن، ولو بشكل انتقائي، خلال هذا الحدث.
ومن أبرز ما عرض المقاتلات التي ستلحق بمتن أسطول حاملات الطائرات الصينية المتنامية، والتي تضم الآن 3 حاملات، ولكن من المرجح أن تنضم إليها في السنوات المقبلة حاملة طائرات عملاقة تعمل بالطاقة النووية، توازي حجم وقدرات حاملة الطائرات الجديدة من طراز جيرالد فورد التابعة للبحرية الأمريكية. كما كشف عن 4 أنواع جديدة من طائرات "لويال وينغمان" المسيرة، وهي طائرات خفية مصممة للمهمات إلى جانب الطائرات المأهولة، وتلقي أوامر المهام منها. وعرضت الصين أيضا 4 أنظمة صاروخية مضادة للسفن والهجمات الأرضية لم يسبق رؤيتها من قبل، إضافة إلى غواصة جديدة بدون طاقم وطوربيدات جديدة.
قدم العرض العسكري أحدث الكشوفات في عام حافل بالأحداث بالنسبة إلى مراقبي المجمع الصناعي العسكري الصيني. وقد بدأت في عام 2024 تظهر على وسائل التواصل الاجتماعي مقاطع فيديو وصور غير واضحة لطائرتين مقاتلتين جديدتين خفيتين في رحلات تجريبية. وبعد بضعة أسابيع، أفادت "نافل نيوز" بأن الصين تقوم ببناء نوع فريد من البوارج المزودة بمحركات وجسور طرق يمكن تمديدها، وتسمح للقطع البحرية بتفريغ حمولتها في مواقع ساحلية غير مجهزة. وأكدت الصور اللاحقة للبوارج في أثناء اختبارها أنها مناسبة بشكل مثالي لنقل الدبابات الثقيلة إلى الشاطئ في حال غزو تايوان.
وفي أواخر يناير الماضي، نشرت صحيفة "فاينانشال تايمز" صوراً ملتقطة بالأقمار الصناعية تظهر أن الصين تقوم ببناء مركز قيادة عسكرية جديد خارج بكين يبلغ حجمه 10 أضعاف حجم البنتاغون على الأقل. وفي مايو، كانت باكستان تخوض مع الهند معركة جوية شاركت فيها 125 طائرة فوق إقليم كشمير المتنازع عليه، واستخدم سلاح الجو الباكستاني طائرات صينية كما يبدو بناءً على أدلة محدودة، لكنها أدت مهماتها بموثوقية عالية.
وتظهر الصين الكثير من المؤشرات عن رغبتها في إنشاء مجمع صناعي عسكري محلي بالكامل. وقد تعهدت القيادة الصينية علناً عن طموحها في بناء جيش من الدرجة الأولى على النطاق العالمي بحلول منتصف القرن الجاري.
وثيقة سرية
بينما تمطر تل أبيب وواشنطن العالم بالتصريحات عن النصر على المقاومة الفلسطينية في غزة ومشاريع تهجير سكان القطاع تنكشف حقائق تعكس المأزق الإسرائيلي.
أفادت القناة الـ12 الإسرائيلية يوم الأحد 31 يوليو 2025، بأن وثيقة سرية داخلية في الجيش أقرت بفشل عملية عربات جدعون 1 في قطاع غزة، وأن أهدافها بإخضاع حماس وإعادة الأسرى لم تتحقق.وقال المصدر ذاته أن الوثيقة تكشف أن من بين أسباب فشل العملية هو التخطيط العشوائي للعملية، وعدم ملاءمة هذا النوع من العمليات لأسلوب قتال حماس.وأشارت القناة إلى أن الوثيقة تؤكد أن إسرائيل ارتكبت كل خطأ ممكن لاسيما عدم تحديد وقت لهذه العملية.وكان المجلس الوزاري الأمني الإسرائيلي المصغر "الكابينت" قد أقر في مطلع مايو 2025 خطة عملية "عربات جدعون" بهدف تحقيق حسم عسكري وسياسي في القطاع، عبر عملية منظمة من 3 مراحل.
وأقرت الخطة استخدام 5 عوامل ضغط ضد حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في محاولة لإرغامها على القبول باتفاق لتبادل الأسرى، وتفكيك بنيتها العسكرية. واستدعى الجيش الإسرائيلي لغرض تنفيذها عشرات الآلاف من جنود الاحتياط.
من جانبه وصف المحلل العسكري لصحيفة معاريف الإسرائيلية آفي أشكنازي، إدارة حرب غزة بأنها “فشل ذريع”، بعد 628 يوما من القتال و1905 قتلى. وبحسب المحلل، حققت إسرائيل إنجازات عسكرية في سوريا ولبنان، لكن الأمر ليس كذلك في غزة. ليس لإسرائيل أهداف واضحة للحرب في غزة".
وطرح أشكنازي تساؤلات حول الهدف النهائي للحرب في غزة. وقال في مقال بمعاريف “حان الوقت لنعيد حساباتنا ونقول بصوت عال: إن إدارة الحرب في غزة فشل ذريع للحكومة ونتنياهو. في غزة، إسرائيل لا تنتصر، بل تغرق في الوحل". وأضاف الكاتب أن “الضغط على حماس لإطلاق سراح الأسرى ليس هدفا للحرب، بل هو مجرد أمنيات”.
وذكر المحلل إن الجيش الإسرائيلي دفع ثمنًا باهظًا ولم نشهد معنى النصر الكامل، الشعار الذي حاول نتنياهو تسويقه منذ يناير 2024.
وأضاف أن الجيش لم يكن مستعدا للحملة على غزة، وقال “فوجئت إسرائيل في السابع من أكتوبر. لكنها لم تكن مستعدة أيضًا لحرب طويلة تستمر عامين. لم تكن مستعدة لقدرات حماس، ولا لحجم الأنفاق والتحصينات تحت الأرض، ولا لصمود حماس والسكان الذين يدعمونها في غزة”.
وقال أشكنازي إن الجيش الإسرائيلي يعاني من نقص حاد في المعدات الحديثة، ويضطر إلى استخدام آليات قديمة تعود إلى القرن الماضي في غزة.
وأضاف “لا بد من إضافة استنزاف المعدات، وهو استنزاف حاد. يعاني الجيش من نقص حاد في الوحدات والجنود. وقصة مقاتلي الهندسة القتالية المؤلمة توضح هذا الوضع”، في إشارة إلى كمين المقاومة في خان يونس، الذي أدى إلى مقتل 7 جنود.
وأشار إلى انسحاب فرقة عسكرية من غزة نحو الجبهة الشمالية واستدعاء جنود الاحتياط لجولات قتالية متكررة رغم الإرهاق، وقال “هناك جنود يخوضون قتالًا مستمرا لأشهر متواصلة، في غزة فقط، بدون تدريب، وبدون أي نشاط عملياتي على خطوط أقل عملياتية”.
فعالية الصمود

جاء في تقرير أعده للجزيرة أحمد حافظ و ديانا جرار ونشر يوم الأحد 7 سبتمبر 2025:
في تصعيد جديد يؤكد استمرارية فعالية المقاومة الفلسطينية رغم العدوان والمجازر التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي منذ نحو عامين، أعلنت سرايا القدس الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي صباح الأحد 7 سبتمبر 2025 إطلاق صاروخين باتجاه منطقة نتيفوت داخل الأراضي المحتلة.
ويتزامن ذلك مع تنفيذ جيش الاحتلال عمليات اجتياح وتدمير واسعة بمدينة غزة، ضمن خطة "عربات جدعون 2″ التي تهدف حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو المطلوب قضائيا لمحكمة العدل الدولية إلى محاولة اجتياح المدينة وتهجير سكانها.
ووفق التحليل العسكري، فإن قدرة المقاومة الفلسطينية على إطلاق الصواريخ وتنفيذ هجمات نوعية تستهدف قوات الاحتلال دليل واضح على فشل إسرائيل في تحقيق أهدافها العسكرية المعلنة، لاسيما ما يتعلق بإنهاء قدرات المقاومة المسلحة.
كما تبرز قدرات المقاومة من خلال تكريس واقع الحرب طويلة الأمد التي استطاعت أن توقع الجيش الإسرائيلي في حرب استنزاف، مع وجود مؤشرات على قدرات ما زالت المقاومة تتمتع بها في تصنيع أسلحتها المحلية وتطوير تكتيكاتها رغم الحصار والتهجير والإبادة الجماعية المستمرة منذ أكتوبر 2023.
وتصعيد العدوان وتكرار قصف أهداف متنوعة للمقاومة، سواء عبر قصف الأبراج السكنية أو اجتياح المناطق المكتظة، لم يمنحا إسرائيل التفوق المنشود في ميدان المعركة. فبعد عامين من استخدام أقسى أساليب القوة والحصار، تظل عمليات المقاومة متواصلة ولا تزال القدرة على إطلاق الصواريخ قائمة.
وهو ما يثبت -حسب تصريحات الخبير العسكري حسن جوني- أن أحد أهم أهداف الحرب الإسرائيلية، والمتمثل في تدمير القدرة القتالية لحركة المقاومة الإسلامية حماس وفصائل المقاومة لم يتحقق رغم الضربات المتكررة.
ويؤكد جوني -في تصريحات أن إطلاق الصواريخ اليوم والأيام السابقة يضع إسرائيل أمام حقيقة إخفاقها في تحقيق تحرير الأسرى أو إنهاء نشاط المقاومة النوعي، مشيرا إلى أن جيش الاحتلال يواجه وضعا ميدانيا غير مسبوق من الفشل والاستنزاف.
حرب استنزاف ونفس طويل
هذا المشهد الميداني المتجدد والقدرة المستمرة على إيقاع الخسائر بقوات الاحتلال يعكسان أيضا دخول إسرائيل في حرب استنزاف فرضتها المقاومة وتكتيكاتها المرنة، حسب ما قاله جوني.
وأشار الخبير العسكري إلى أن استمرار المواجهات وعودة الصواريخ -رغم العمليات العسكرية المكثفة مثل "عربات جدعون 2"- يعد دليلا على طول نفس المقاومة، وفي الوقت ذاته تآكل القدرة الإسرائيلية على فرض الحسم.
ويضيف الخبير الأمني والعسكري أسامة خالد أن الحرب المستمرة والسياسات المطبقة من قبل الاحتلال الإسرائيلي لم تثمرا جدوى حتى الآن، إذ تعيد المقاومة ضبط تكتيكاتها الدفاعية بما يتواكب مع التطورات الميدانية رغم الاستنزاف الشديد الذي تعرضت له.
وأضاف خالد أن التغيرات في نسق المواجهة وتواصل إطلاق الصواريخ يعكسان قدرة المقاومة ونجاحها في فرض إيقاع ميداني طويل الأمد، كما حافظت على إمكانات الرد رغم كل المحاولات المستمرة لسحقها.
المقاومة تصنع سلاحها
وتواصل المقاومة الفلسطينية صمودها خلال سنوات الحصار الممتدة منذ نحو عامين، وتتصدى لكل محاولات تفكيك بنيتها العسكرية، إذ أظهرت الأحداث الأخيرة -وفق تصريحات الخبراء تمكن المقاومة من تصنيع سلاحها ذاتيا، واعتمادها على خبرات محلية في إنتاج الصواريخ والعبوات الناسفة.
وفي ظل منع إدخال المواد الخام واستمرار الحصار، تبرز قدرة المقاومة على تطوير ترسانتها العسكرية، الأمر الذي يعده جوني دليلا على استقلالية الصناعات العسكرية للمقاومة.
أما خالد فيرى أن استمرار تصنيع السلاح داخليا يعد أحد المرتكزات الأساسية لصمود المقاومة وبقائها طرفا فاعلا في مواجهة الاحتلال، حتى وإن كان ذلك بكميات محدودة وبإجراءات تقنين مدروسة تفرضها ظروف الحصار والاستهداف.
وفي ظل اشتداد العمليات العسكرية، ينفذ الجيش الإسرائيلي عمليات تدمير واسعة في مدينة غزة، ويستهدف مربعات سكنية كاملة ويهدم الأبراج المتبقية، في إطار خطة اجتياح باسم "عربات جدعون 2" التي تهدف إلى تهجير السكان والسيطرة على المدينة.
وفي المقابل، أطلقت كتائب القسام عمليات "عصا موسى" للتصدي لقوات الاحتلال، ونفذت عدة هجمات نوعية على الدبابات والآليات العسكرية في مناطق متفرقة بالقطاع.
نكسة على الجبهة اللبنانية
على الجبهة اللبنانية تواجه تل أبيب مع واشنطن وحلفاء آخرين إنتكاسة في محاولاتهم نزع سلاح حزب الله اللبناني واستغلال الضعف الذي أصابه خاصة على مستوى القيادة بعد اغتيال عدد من كبار قادته وعلى رأسهم حسن نصر الله يوم الجمعة في 27 سبتمبر 2024، إثر عشر غارات إسرائيلية على مقر الحزب في الضاحية الجنوبية لبيروت.
حيث تخلت الحكومة اللبنانية رغم الضغوط الأمريكية عن السقف الزمني لحصر السلاح في يد الدولة.
فرغم إقرار الحكومة اللبنانية في جلستها يوم 5 سبتمبر لخطة الجيش بحصر السلاح في يد الدولة، فإنها حرصت على تهدئة التوتر مع حزب الله، من خلال تمسكها بحصر السلاح دون سقف زمني محدد، وربطها تنفيذ لبنان لمقتضيات الورقة الأمريكية بالتزام إسرائيل هي الأخرى بها.
وأجلت صيغة البيان الصادر عن جلسة مجلس الوزراء يوم الجمعة جوهر الخلاف، مما جعل وزراء الثنائي حزب الله وحركة أمل، يقرون بإيجابية البيان، لاسيما في إشارته لمسؤوليات الجانب الإسرائيلي. وجاء ذلك رغم أن 5 وزراء من حزب الله وحليفته بالإضافة إلى وزير مستقل انسحبوا من جلسة الحكومة أثناء عرض قائد الجيش خطته.
ويقول حزب الله إنه يرفض نزع سلاحه تحت أي ظرف من الظروف، لأن المسألة تتعلق بوجود ومستقبل لبنان، ويؤكد أيضا إنه في حال تم تجريد لبنان من المقاومة، فإن إسرائيل يمكن أن تنفذ الاعتداءات تحت أي متغير سياسي لاحقا، فضلا عن أن الرهان على الشرعية الدولية بات نكتة في ظل ما يحدث في قطاع غزة.
وتصر الولايات المتحدة الأمريكية على نزع سلاح حزب الله لأنه قادر وكما ثبت عمليا على ردع تل أبيب وقدمت واشنطن ورقة للسلطات اللبنانية في هذا السياق، ويقر الباحث في الدراسات الإستراتيجية والأمن الدولي، كينيث كاتزمان في حديثه لبرنامج "ما وراء الخبر" أن واشنطن تدفع باتجاه تحديد سقف زمني لنزع سلاح حزب الله ومنعه من استجماع قوته.
ضربة يمنية
على بعد 2000 كيلومتر تقريبا جنوب غزة تواصل القوات اليمنية توجيه ضربات إسرائيل. فيوم الاحد 7 سبتمبر 2025، أفاد الجيش الإسرائيلي بإصابة مسافرين جراء انفجار مسيرة أطلقت من اليمن على قاعة المسافرين القادمين بمطار رامون في النقب جنوبي إسرائيل، في حين تحدث الجيش عن أخطاء خطيرة حالت دون رصد المسيرة.
ونقلت إذاعة الجيش الإسرائيلي عن تحقيق عسكري أن "أخطاء خطيرة" حالت دون رصد المسيرة التي أطلقتها جماعة أنصار الله من اليمن ودخلت المجال الجوي لإسرائيل وضربت هدفها دون أن يتم اعتراضها أو اكتشافها.
وفي السياق، أفادت سلطة المطارات الإسرائيلية بإغلاق المجال الجوي ووقف الرحلات في مطار رامون، والعمل لإعادة العمل "في أقرب وقت". وفي السياق، أفادت سلطة المطارات الإسرائيلية بإغلاق المجال الجوي ووقف الرحلات في مطار رامون، والعمل لإعادة العمل "في أقرب وقت".
وتعليقا على الهجمات، قال الناطق العسكري باسم الحوثيين يحيى سريع "نؤكد تصعيد عملياتنا ولن نتراجع عن مساندة غزة مهما كانت التبعات والعواقب، وعلى شركات الملاحة الجوية مغادرة مطارات فلسطين المحتلة لأنها أصبحت غير آمنة". وعن هذه الهجمات الجديدة، قال نصر الدين عامر نائب رئيس الهيئة الإعلامية للحوثيين إن الهجمات ضد إسرائيل والتحالف الداعم لها "ألحقت أضرارا كبيرة بالعدو على عكس ما يدعي" مشيرا إلى أن أكبر خسارة تتمثل في إغلاق ميناء إيلات الرئيسي والوحيد على البحر الأحمر، ومنع الملاحة التي تخدم إسرائيل في البحر الأحمر وباب المندب وخليج عدن والبحر العربي. وعن ضرب المطارات تحديدا، أوضح عامر أنها "تمثل شريانا أساسيا للعدو، ويبقى هدفنا الرئيسي عزل العدو عن العالم قدر الإمكان بهدف الضغط عليه لوقف العدوان ورفع الحصار عن غزة".
وأكد عامر أن إسرائيل "تنتهج سياسة تقليل الخسائر وتفرض رقابة عسكرية صارمة وتعتيما إعلاميا على خسائر الضربات التي تتعرض لها" متسائلا "لو لم يكن هدفها تقليل الخسائر، فلماذا تفرض هذه الرقابة العسكرية؟".
للتواصل مع الكاتب والمحلل السياسي عمر نجيب
Omar_najib2003@yahoo.fr
