Quantcast
2022 أبريل 9 - تم تعديله في [التاريخ]

التنمية: السياق التاريخي والبناء المفاهيمي

مقال علمي وأكاديمي لمفهوم التنمية وفق رؤية المفكر المغربي مصطفى محسن.


العلم الإلكترونية - بقلم بكوش فاطمة الزهراء

لما كانت التنمية مفهوما متعدد الأبعاد، ذو مركزية كبرى داخل مختلف ميادين العلوم الانسانية والاجتماعية؛ فقد دأب عدد من الفكريين على الاشتغال عليه وفق رؤى متنوعة تعكس الطابع المتفرد لخلفياتهم المعرفية، ومن ضمن هؤلاء المفكرين الذين اشتغلوا على هذا الموضوع في المغرب، يأتي الدكتور مصطفى محسن كواحد من الأساتذة الكبار الذين طبعت أعمالهم حول مسألة التنمية في مجتمعات العالم الثالث المكتبة العربية. واعترافا بما قدمه من مجهود بحثي، وانتاج فكري زاخر، أقيم في رحاب كلية العلوم الاجتماعية والإنسانية لجامعة ابن طفيل يوم الاثنين 21 مارس 2022، لقاء علمي لتقديم كتاب ذ.حسن علوض الذي حمل عنوان" التنمية أفقا للتفكير، دراسة في سوسيولوجيا مصطفى محسن".
 
 قدم الأستاذ مصطفى محسن في إطار هذا اللقاء، كلمة علمية قيمة، تطرق فيها إلى أفكار تشكل مداخل لقراءة مفهوم التنمية، وتلخص رؤيته حولها. ويمكن أن نوضح ما جاء فيها، وفق التسلسل الآتي:

السياق التاريخي لتطور مفهوم التنمية

يعتبر مفهوم التنمية من حيث مضمونه مفهوما قديما؛ فإذا عدنا إلى التطورات التي شهدها العالم خلال القرنين 15 و16 نجد أن هذا المفهوم كان حاضرا، بمعنى يحيل على التطور والنمو ومواكبة التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي شهدتها أوروبا خلال هذه الفترة الزمنية. لكن على مستوى التناول الفكري في خطابات العلوم الاجتماعية والانسانية فإن هذا المفهوم سيصبح أكثر حضورا خلال أواخر القرن التاسع عشر، ليضحي حضوره خلال النصف الثاني من القرن العشرين أكثر اشعاعا، انعكست عبر زخم الانتاجات التي تطرقت إليه. أما على مستوى الأسباب التي أدت إلى هذا الزخم الفكري، فقد أرجعها مصطفى محسن إلى ما عاشته عدد من بلدان العالم الثالث من أحداث استقلال سياسي خلال هذه الفترة التاريخية، ما أدى بدوره إلى بروز سؤال كيف يمكن أن تتحقق التنمية داخل هذه المجتمعات؟
 

التنمية داخل مجتمعات العالم الثالث: التحديات والعوائق

حتى يتسنى فهم الأسباب وراء تعثر التنمية داخل البلدان التي يطلق عليها لقب بلدان "العالم الثالث"، عرج الدكتور مصطفى محسن على تحديد التحديات الكبرى التي واجهتها هذه الدول في اشتغالها، وكذا أهم العوائق التي حالت دون تحقق الأهداف المتوخاة. فعلى مستوى التحديات الكبرى، يمكن تلخيصها في 3 نقاط رئيسية، وهي: 
 
التحدي الأول تمثل في الصعوبات التي واجهتها هذه المجتمعات من أجل بناء "الدولة الوطنية" القائمة على أسس وطنية من طرف قوى وطنية وبأهداف وتوجهات وطنية؛
 
التحدي الثاني تمثل في صعوبة محاربة التبعية للدول المستعمِرة، والتخلص من مفرزات الاستعمار؛
 
التحدي الثالث تمثل في الصعوبات المواجهة في بلورة وتفعيل برنامج تنموي متكامل شمولي، يؤدي إلى الاستقلال الاقتصادي والاجتماعي الفعلي عن الدول المستعمرة.
 
لكن ما حققته هذه الدول في سيرورتها لرفع هذه التحديات، سيشهد تفاوتا على مستوى النتائج؛ نظرا للتركيبة الاجتماعية التي تتميز بها هذه المجتمعات، وخصوصية الاستعمار الذي عاشته، وكذا الاختلافات المرتبطة بالبعد الجيوسياسي المميز لكل منها. وفي المجمل يمكن تلخيص الأسباب التي أعاقت تحقيق التنمية في أغلب هذه الدول، في النقاط الآتية:
 
ضعف وهشاشة النخب الوطنية داخل مجتمعات العالم الثالث، وبروز التناقضات والاختلافات الثانوية فيما بينها، وكما يقول الدكتور عبد الله العروي فقد "طغت على الواقع المستحدث خلال مرحلة الاستقلال الأولى مظاهر شقاق وصراع مفتوح جعلته بحق منفصما عن تاريخه الحديث"، مما أدى بها إلى الانتقال من مرحلة اللحمة الوطنية في مواجهة الاستعمار، إلى مرحلة الفرق المتعددة والمتعارضة، مما أضعف مساهمتها في تحقيق التنمية؛
 
تبعيات الاستعمار والثقل الذي خلفه، سواء على المستوى الاجتماعي أو الثقافي أو الإداري؛ بحيث وجدت هذه الدول أنفسها مجبرة على ضخ مجهودات جبارة لمجابهته؛
 
سيادة الرؤى الاختزالية لمفهوم التنمية بين النخب التي كانت تدير دواليب الحركة السياسة والاقتصادية في هذه المجتمعات؛ بحيث ركزت هذه النخب على الجانب الكمي الاقتصادي واعتبرته المدخل الرئيسي للتنمية. وهو ما اعتبره الدكتور مصطفى محسن خلطا بين مفهوم التنمية Le Développement ومفهوم النمو La Croissance ؛
 
غياب الإدراك العميق للعلاقة السببية بين التنمية والتربية، في صفوف النخب الوطنية التي قادت مرحلة ما بعد الاستعمار؛ بحيث اختزلت النظرة إلى التنمية في سياقها الاقتصادي، واختزل التعليم في الرؤى التي تعتبره أداة لنقل المعارف وتكوين الناس وإعدادهم للانخراط في الحياة الاجتماعية في مختلف المجالات. 

التنمية والنمو: نقاط للتقاطع والاختلاف

يمثل التحديد المفاهيمي للتنمية مرحلة أساسية لتجاوز العوائق التي تشهدها دول العالم الثالث، في سيرورتها نحو تحقيق التنمية المستدامة والشمولية. ومن هذا المنطلق ركز الدكتور مصطفى محسن على توضيح الفروق المميزة بين كل من مفهوم التنمية ومفهوم النمو، لتجاوز الخلط الواقع بينهما، والسائد بين النخب وداخل المؤسسات. ويمكن تلخيص هذه الفروق في النقاط التالية:
 
  • الكمي في مقابل النوعي:
يرتكز مفهوم النمو في عمقه على طبيعة كمية؛ فقياس نمو مجال من المجالات يمر عبر تتبع مؤشرات كمية عددية بشكل أساسي. في المقابل يرتكز مفهوم التنمية على الجوانب النوعية، ويعتمد في قياسه على مؤشرات شمولية بأبعاد كيفية وكمية في الوقت نفسه، فـ"مدلول التنمية لا ينحصر في النمو الاقتصادي فحسب، بل إنه يمتد إلى اعتبارها وسيلة لتمكين الأفراد والجماعات من حياة كريمة، ثقافيا ووجدانيا وأخلاقيا وروحيا واقتصاديا".
 
  • القطاعي في مقابل الشمولي:
تختلف التنمية عن النمو أيضا في ما يخص تجزيء المجالات أو القطاعات المعنية بالنمو أو التنمية؛ ففي الوقت الذي يعنى النمو بالقطاعات كل على حدا (نمو القطاع الفلاحي مثلا، أو نمو مجال من مجالات القطاع الفلاحي)، فإن التنمية تعتبرها جزء لا يمكن تفكيكه، ولا يمكن النظر إليه إلا باعتباره وحدة كاملة (تنمية القطاع الفلاحي والتعليمي والاقتصادي والثقافي وباقي القطاعات بشكل مندمج ومتوازي)، إنها كما يقول د. مصطفى محسن " تستوعب النمو وتتجاوزه".
 
  • الظرفي في مقابل المستمر:
يمكن للنمو أن يحدث في سياق ظرفي، مفاجئ، وغير متوقع، دون أن تطبعه الاستمرارية في الزمن؛ نتيجة لاجتماع ظروف مناسبة لتحققه في زمن معين، على سبيل المثال نمو في قطاع من القطاعات الفلاحية نتيجة توفر الظروف المناخية الملائمة خلال موسم من المواسم الفلاحية. في حين أن التنمية عملية متواصلة مستقرة ومستمرة في الزمن.
 
  • العفوي في مقابل القصدي:
يمكن للنمو _كما سبقت الإشارة_ أن يحدث دون تخطيط قبلي، في حين أن التنمية هي بالضرورة عملية قصدية تأتي بناء على استراتيجية وتخطيط متأني ومدروس، لا مجال فيها للصدفة أو الظروف العابرة، إنها عملية إرادية وهادفة.
 
وانطلاقا من تحليل نقاط التقاطع والاختلاف بين المفهومين، يمكن أن نقول بأن النمو هو جزء من التنمية، التي تستوعب في طياتها كل جوانب وأبعاد وأنماط وقطاعات ومستويات النمو، لكنها تتجاوزه في الوقت نفسه. وبهذا يمكن تعريفها بأنها ذلك الاستنهاض الشمولي لكل جوانب وقطاعات وامكانات المجتمع وقواه المادية والرمزية، الذي هدفه الأسمى "الإنسان"، ووسيلته المثلى هي "الإنسان" أيضا. 

التربية، مدخل جوهري للتنمية المستدامة والشمولية

يقول علي الوردي إننا ندرس التاريخ لكي نستفيد لحاضرنا ومستقبلنا، ووفق هذا الهدف قدم د.مصطفى محسن لمحة تحليلية لتاريخ المجتمعات التي استطاعت أن تبني ذاتها وتتجاوز التحديات والعوائق التنموية، للاستفادة من تجاربها. هذا التحليل قاده إلى خلاصة مفادها بأن جميع هذه المجتمعات تشترك في وضعها التعليم كنقطة للارتكاز ومحور أساسي لمشروعها التنموي، إذ اهتمت بتنمية الرأسمال الإنساني وتهيئته ليؤدي دوره في السيرورة التنموية بالشكل المطلوب، فمكنته من الترسانة القيمية والمعرفية والثقافية التي تؤهله للارتقاء بالمجتمع ككل. وبهذا المعنى فإن الإنسان وفق هذه الرؤية التنموية القائمة على التعليم والتربية وبناء الرأسمال الرمزي والقيمي، نقلت الإنسان من وضعية التلقي إلى وضعية الإنتاج، ومن وضعية المشاهدة إلى وضعية المشاركة، ومن وضعية الجمود إلى وضعية الاستثمار، وهو الشرط الجوهري الذي كفل لها الاستمرارية في الزمان والمكان.
 
إن اعتبار التربية مدخلا للتنمية، والعمل على الاستثمار في الرأسمال الإنساني وفق رؤية استراتيجية واضحة المعالم والوسائل والأهداف، هو ما كان غائبا عن النخب التي صاغت المشاريع التنموية لمجتمعات العالم الثالث، وهو ما أعطى في النهاية مشاريع معطوبة، لم تحقق ما كان يتوخى منها.
 
ومع بروز خطاب التحولات المعرفية الجديدة في آواخر سبعينيات القرن الماضي وبداية الثمانيات، ستعرف الرؤى المدافعة عن التربية كمدخل لتنمية اشعاعية أكبر، وستتعاظم مكانتها في صفوف الأدباء والمفكرين الذين سينظرون حول انتقال السلطة من يد القوى المادية الاقتصادية أو العسكرية إلى القوى المعرفية العلمية، وتحول الصراعات بين الدول الكبرى من صراعات حول الموارد الطاقية إلى صراعات حول المعرفة وما تنتجه.
 
في نهاية كلمته القيمة أكد مصطفى محسن على أن تحرير الطاقات الابداعية للإنسان وإعطائها الفرصة للابتكار سيساهم ليس فقط في تحقيق التنمية بل في ضمان استمراريتها واستدامتها، وهو ما لن يتحقق إلا بوضع رؤية شمولية للتنمية واضحة المعالم وقائمة على مشروع مجتمعي واضح المعالم للتربية والتعليم، مشروع قادر على تقديم الإجابة التامة والمتكاملة عن سؤال: ما هي مواصفات الإنسان الذي نريد أن ننميه؟

خلاصة

رغم أن تحقيق التنمية المستدامة الشمولية والمتواترة يعد مطلبا لكل شعوب الدول غير المتقدمة، وجزء لا يغيب عن البرنامج المسطر لها من طرف مختلف النخب والفاعليين داخل هذه المجتمعات، إلا أن النتائج تظهر تعثرا متكررا، واخفاقات متتالية. حتى أصبح التعثر والاخفاق سمات مميزة لأغلب البرامج والاستراتيجيات التي تتم بلورتها. وهنا تظهر الحاجة إلى قراءة وتحليل عالم الاجتماع، فمحاولة الفهم لأسباب تعثر التنمية داخل هذه البلدان، هي ما قاد السوسيولوجي مصطفى محسن إلى تتبع السياق التاريخي لمفهوم التنمية، من جهة، ومن جهة أخرى تحديد مضامينه الحقيقية لتجاوز أي مغالطات أو خلط بينه وبين مفاهيم أخرى مشابهة. هذا التتبع التاريخي والتأطير المفاهيمي مع التحليل لمختلف العناصر التي تضمناها، قاده في النهاية إلى تبني أطروحة "التربية مدخل أساسي للتنمية"، باعتبارها الأداة التي تمكن من الاستثمار في الرأسمال البشري، القادر بدوره على بناء المجتمع، وضمان الاستدامة لأي برنامج أو مشروع. إننا إذ نمنح الإنسان الأدوات التربوية، المعرفية، والثقافية المناسبة لتطويره ودعم مختلف قدراته الذهنية والابتكارية والتحليلية، نكون قد وضعنا الدولة بكل مكوناتها في المسار الوحيد الذي سيقودها نحو التنمية، ذلك المسار الذي ينطلق من الإنسان وينتهي إلى الإنسان.
 

              

















MyMeteo



Facebook
YouTube
Newsletter
Rss

الاشتراك بالرسالة الاخبارية
أدخل بريدك الإلكتروني للتوصل بآخر الأخبار