صيف 2025، زمن الوجع واللايقين
يعيش العالم منذ سنوات على وقعِ تحولات كبرى شاملة وقاسية تعيد ترتيب نظامه العالمي وأولوياته وعلاقاته. يتم هذا التحول على إيقاع تطورات إلكترونية دقيقة وعميقة التأثير على كل مجالات الحياة اليومية، لكن صيف 2025 بدى مُختلفاً على مستويات منها مستوى الموسيقى وأشكال الفرجة التي تقدم بها نفسها.
بدى القلق على وجوه المتفرجين، وغاصت أعينهم في شاشات الهواتف المحمولة كأنها أبواب مفتوحة على عوالمَ موازية. بدا الذكاء الاصطناعي في فرجة القبة حاضراً في كل زوايا القبة وسقفها الافتراضي، مُؤثّرا بقوة الإبهار في إدراك الأفراد، يُعيد تشكيل تفاصيل حياتهم اليومية بشكل يجذب انتباههم ويثير إقبالهم. شعر كذلك المتفرجون من شباب الألفية بأنهم يعيشون فرجة لم يختاروها فقاوم البعض منهم، لكن الأغلبية انجرفت مع الموجة الجديدة المدهشة.
قال الموسيقي البريطاني "براين إينو" (Brian Eno)بأن الفن : لا يقدم مَهرباً من الواقع بل إنه يمنحنا وسيلة لإعادة ترتيبه” هكذا صار حُضور حفلةٍ موسيقية أشبه ببوابة للعودة إلى الذات، أو العودة على الأقل إلى وهْمٍ جماعي يمنح جيل الألفية لحظة دِفء في زمن باردٍ غادره كبارُ المُبدعين أو ما تبقَّى منهم.
1 - باك ستريت بويز: أيقونة جيل الألفية.
وُلدت فرقة Backstreet Boys في منتصف التسعينيات وحملت معها أحلام المراهقين والمراهقات حول العالم. غنَّى جيل الألفية أغانيها في البيوت ورقص على إيقاعاتها في الحفلات، لأنه وجد فيها جسراً نحو “الحلم الأمريكي”.
انطلقت مسيرة هذه المجموعة الموسيقية المتميزة مع ألبوم Backstreet Boys (1996)، وتواصلت مع Backstreet’s Back (1997)، قبل أن تبلغ الذروة مع ألبوم Millennium (1999) حيث شكَّلت أغنية I Want It That Way رمزاً لجيل بكامله. وفي عام 2000 أطلقت المجموعة ألبوم Black & Blue، ليتوالى انقطاع المجموعة وعودتها مرات، لكن جمهورها ظل وفياً.
احتفلت الفرقة في أبريل 2023 بذكراها الثلاثين، ثم أعادت في يوليو 2025 إصدار نسخة مُحدَّثة بعنوان Millennium 2.0، لتفتح جرحاً قديماً في ذاكرة جيل ما زال يبحث عن ذاته، في مجتمع يُعقِّد الأمر عليه أكثر بتحولاته العميقة العنيفة والجارفة.
2 - القبة في لاس فيغاس: معبد التجربة البصرية.
أصبحت القُبَّة في لاس فيغاس (Sphere) علامة فارقة في المشهد الفني العالمي. ففي صيف 2025 وقفت فرقة باك ستريت بويز على منصتها ضمن إقامة فنِّية بعنوان Into the Millennium و قدمت عروضها بين شهري يوليو وأغسطس، ومُدّدت العروض حتى فبراير 2026 بسبب الإقبال.
لم تكن القُبة مجرد فضاء للحفلات بل كانت أكثر من ذلك مسرحاً غامراً يُدمِج الموسيقى، بالصورة والواقع بالخيال والذكريات بالنجوم الاصطناعية. جلس الجمهور تحت سماء مُركَّبة بالذكاء الاصطناعي تُزيِّنُها حدائق رقمية تتفتح ومراكب فضائية تحلق في فضاء موازٍ.
كتب الفيلسوف الإنجليزي ألدوس هكسلي (Aldous Huxley) يقول: “نحن لا نرى الأشياء كما هي بل نراها كما تتم تهيئتنا لرؤيتها.” هذا بالضبط ما عاشه الجمهور مع مجموعة باك ستريت بويز داخل القبة: رؤية مُصنَّعة تثير في النفوس وفي الأذهان حقيقةً وواقعا موازيان لواقع خارجي لا يُطرب.
3- موسيقى تتجاوز الزمن: بين الطفولة والجراح.
لم يتوقف جمهور باك ستريت بويز في حفل قبة لوس أنجلس عند الغناء مع المجموعة فحسب، فقد تجاوز ذلك إلى استعادة ذكرياتٍ تراكمت في نفسه منذ التسعينيات: لحظات المراهقة والأحلام الصغيرة والجراح الخفية وحتى الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي عصفت بجيل الألفية آنذاك. بدت الأغاني وكأنها تُعيد كتابة التاريخ الشخصي لكل واحد منهم، وتلك لعمري قمة التماهي مع الفن، وفي هذا السياق قال الموسيقي البريطاني "دامون ألبارن (Damon Albarn) “بأن: الموسيقى تمنحنا مكاناً مؤقتاً نكون فيه معاً مهما فرَّقت بيننا سُبل الحياة.”
4 - جيل الألفية: مجتمع يولد من جديد.
وُلد جيل الألفية بين سنتي 1981 و1996 فصار أول جيل يعرف العالم قبل الإنترنت وبعد مجيئه. عاش هذا الجيل أزمات اقتصادية ورأى كيف انقلبت مفاهيم الاستقرار والعمل بسببها. وها هو اليوم في يلتقي في القبة من جديد وكأنه يختبر لحظة هوية جماعية، ممكنة في عالم تضيع فيه الهويات، أو أنها تتشبث ببنياتها التقليدية تحت ضربات تحولات العالم العنيفة.
غنّى الحاضرون في القبة مع مجموعة باك ستريت بويز ورقصوا، كما لو أنهم عادوا للتو إلى دفء ومتعة الأصل. تلاشت المسافات بين الفردي والجماعي وظهرت روح المجتمع المخفي، الذي لم يخرج إلى النور إلا بفضل موسيقى باك ستريت بويز.
5 - بين الإلهاء والحنين: جدلية قديمة في وظيفة الفن.
يتساءل كثيرون بعد مشاهدة الفرجات المذهلة للقبة: هل كانت هذه الحفلات مجرد إلهاء لجيل الألفية عن واقع قاتم يعيشونه؟ أم أنها تمثل شكل تعبيريا فنيا من أشكال المقاومة الجمالية لما يحمله عالم اليوم من قبحٍ؟
يغص العالم اليوم بالحروب والتحولات الجيوسياسية الكبرى لكن، المختلف هو أننا نشاهدها مباشرة على شاشات صغيرة بين أيدينا، حيث يعاد رسم الخرائط ويتم قلب الطاولات بما فيها واليقين يكاد يختفي.
يقول الفيلسوف البريطاني برتراند راسل (Bertrand Russell) : " لا يتم الهروب من المعاناة بالوهم وإنما يكون بالبحث عن معنى يجعل الألم مُحتملاً.”، فهل كان حضور حفل القُبة مع المجموعة الموسيقية باك ستريت بويز بالنسبة لجيل الألفية هروب من الواقع، أم أنه كان محاولة جماعية للبحث عن معنىً، وسط الفوضى التي تسود العالم اليوم؟
6 - الحلم الأمريكي: بين الانكسار والتجدد.
لطالما رافق اسم باك ستريت بويز صورة الحلم الأمريكي، لأنه يجمع بين موسيقى جماهيرية ونجاح عالمي وصورة شبابية مشرقة لكن، فهل لا زال هذا الحلم قائماً بعد عقود من الحروب والأزمات الاقتصادية والتغيرات البيئية؟
تبدو العودة الأخيرة والصاخبة للفرقة الغنائية باك ستريت بويز إلى قبة مدينة لاس فيغاس محاولة لإعادة إحياء الحلم ولو بصيغة رمزية. يقف جمهور من مختلف الجنسيات تحت نجوم اصطناعية وهو يغني جماعيا أغنية قديمة، مُسترجعا بذلك شعوراً يكاد يموت مؤداه أن الحياة ما تزال تحمل وعداً ما. ويقول أيضا الموسيقي البريطاني ديفيد بوي David Bowie : "لا تستطيع الموسيقى تغيير طريقة نظرك إلى نفسك ولو للحظة.” وربما كان هذا هو جوهر الحلم الأمريكي في صيف 2025: لحظة عابرة من الإيمان بالذات.
7 - الفن والذكاء الاصطناعي: علاقة ملتبسة.
لا يمكن فصل تجربة القبة عن حضور الذكاء الاصطناعي، فالصور التي شاهدها الجمهور لم تُرسم باليد، وإنما أنتجتها خوارزميات قادرة على محاكاة النجوم والفضاء والطبيعة وهنا يطرح السؤال: هل ما زال الفن تعبيراً إنسانياً خالصاً أم صار شريكاً للآلة؟
كتب الفيلسوف البريطاني غيلبرت رايل (Gilbert Ryle) يقول: “ليس الوعي شيئاً منفصلاً عن الفعل بل هو الفعل ذاته.” فمشاهدة الجمهور لتلك الصور لم تكن مجرد تلقي سلبي إذا، بل كانت مشاركة في فعل جماعي يندمج فيه الإنساني بالاصطناعي في تجربة واحدة ومُوحِّدة.
*بين المسرح والحياة*
وقفت الجماهير في القبة بين نجوم اصطناعية وحدائق رقمية وهي تغني من أعماق قلبها. ولم يكن الحفل مجرد إلهاء بل كان حقيقة لحظةَ بناءِ مجتمعٍ جديد، يستحضر بالحنين ماضٍ مجيد ليواجه فوضى زاحفة. لربما كان هذا هو الجواب المؤقت على سؤال ظل يلاحقنا وهو: هل ما زال الحلم الأمريكي ممكناً؟
تقول الحكمة القديمة بإن الفن مرآة الشعوب، وها هي الموسيقى في صيف 2025 ومع مجموعة باك ستريت بويز في حفل القُّبة المدهش يشكل مرآة جيل كامل، لا ليهرب من واقعه بل ليعيد ترتيب فوضاه وليستمد بذلك معنىً جديداً من ذاكرة قديمة.
رئيسية 








الرئيسية


