Quantcast
2025 أبريل 21 - تم تعديله في [التاريخ]

تجربة ركحية تختزل الألم النفسي في تجلياته الأكثر تعقيدا وصدقا

مسرحية "النقشة" نقش نفسي وجسدي حيث العقلانية محصورة في الجناح والجنون الحقيقي خارج الأسوار..


جميعا نحمل في دواخلنا نقشا خفيا يحتاج فقط إلى من يقرأه بصوت مسموع

تجربة ركحية تختزل الألم النفسي في تجلياته الأكثر تعقيدا وصدقا

*العلم الإلكترونية: شيماء اغنيوة*

احتضن مركب التنشيط الفني والثقافي بسلا تابريكت عرضا مسرحيا استثنائيا حمل عنوان "النقشة" وقدم توقيعه الإبداعي فرقة محترف 21 في إطار جولة وطنية مدعومة من طرف وزارة الشباب والثقافة والتواصل قطاع الثقافة.

تعد مسرحية "النقشة" لمخرجها ومؤلفها الدكتور عبد المجيد سعد الله، من الأعمال المسرحية المغربية اللافتة التي تنبع من قلب المعاناة النفسية والاجتماعية، ليست مجرد حكاية تروى، بل تجربة وجودية مكتوبة بلغة الجرح، ومجسدة بجسد ممزق بين الأمل واليأس، بين الاعتراف والصمت.


أبدع الفنان عبد المجيد سعد الله في كتابة نص يتجاوز الطابع الكلاسيكي للدراما، ليدخلنا في فضاء مغلق ظاهريا، لكنه مفتوح على كل أسئلة الإنسان في لحظاته القصوى.
 

في هذا العمل، يتموقع الجمهور في جناح للأمراض النفسية، فضاء يبدو منغلقا ومنفصلا عن العالم، إلا أنه في عمقه يعكس صورة دقيقة عن مجتمع مأزوم، وضمائر مثقلة بأوزار الذاكرة والفقد. دخول المرأة الغريبة إلى هذا الجناح يشكل الحدث المفصلي الذي يحرك دينامية النص. ليست شخصية عابرة، بل حضور رمزي يهز السكون، ويستفز الماضي، ويكشف المستور.


تتوزع الشخصيات داخل المسرحية كأنها أصوات داخل الرأس البشري، كل واحدة تمثل ألما محددا، خيبة حب، رغبة انتقام، صدمة خيانة، انكسار وجودي. ومع كل مشهد، يتم "نقش" جزء من الحقيقة، وكأن المسرحية عملية نقش نفسي وجسدي على جدار الزمن، أو على جدران الصمت الطويل الذي يعيشه الأفراد في مجتمعات لا تصغي.


تجربة ركحية تختزل الألم النفسي في تجلياته الأكثر تعقيدا وصدقا

الجنون هنا ليس خللا عقليا كما هو في الطب، بل تمرد وجودي ضد واقع مختل. الشخصيات "المريضة" في ظاهرها، تقدم أكثر المواقف حكمة وصدقا. إنها مفارقة يشتغل عليها النص ببراعة، أن تكون "العقلانية" محصورة في الجناح، والجنون الحقيقي خارج الأسوار.


لغة المسرحية تنوس بين العامية المغربية المنفلتة من الزينة، والشاعرية الخافتة التي تظهر فجأة في لحظة اعتراف أو انكسار. اختار سعد الله أن يجعل من اللغة أداة حفر، لا تزيين، بحيث تتحول الكلمة إلى جرح مفتوح، أو لمسة إنسانية حنونة في لحظة أخرى. وهذا التنويع اللغوي يعزز البعد النفسي للنص، ويمنح الحوار واقعيته وحدته.


إخراجيا، يتعامل سعد الله مع الركح كأنه جسد آخر للشخصيات، بسيط في مظهره، معتم في إضاءته، ولكنه غني في رمزيته. الفضاء المسرحي ليس مجرد خلفية، بل هو شريك في القول. الجدران المشققة، الأبواب المغلقة، الإضاءة الخافتة، كلها تقول ما لا تستطيع الشخصيات قوله صراحة.


"النقشة" ليست فقط عملا مسرحيا، بل سفر داخل النفس البشرية الجريحة، ومرآة لمجتمع يرفض الاعتراف بألمه. إنها مسرحية لا تقدم إجابات، بل تحرك أسئلة موجعة، وتدفع المتلقي إلى إعادة النظر في مفاهيمه حول العقل، الجنون، الحقيقة، والمصالحة مع الذات.


بهذا المعنى، يتحول العمل إلى شكل من أشكال العلاج الجماعي، حيث يعترف الجميع، شخصيات وجمهورا، أن لا أحد في مأمن من الألم، وأننا جميعا نحمل في دواخلنا نقشا خفيا، يحتاج فقط إلى من يقرأه بصوت مرتفع.


المسرح النفسي... حين يتحول الركح إلى مرآة للذات

تجربة ركحية تختزل الألم النفسي في تجلياته الأكثر تعقيدا وصدقا


في تصريح خص به جريدة "العلم"، أكد المخرج عبد المجيد سعد الله أن مسرحية "النقشة" تندرج ضمن خانة المسرح النفسي، الذي لا يكتفي بسرد الأحداث، بل يغوص عميقا في أغوار النفس البشرية، محللا تعقيداتها، جراحها، وتناقضاتها. من خلال مقاربة فنية دقيقة، يسعى هذا العمل إلى معالجة العقد النفسية دون اللجوء إلى خطاب مباشر، بل عبر انفعالات الشخصيات وتفاعلها مع محيطها. تقنيا، يرى سعد الله أن المسرحية تستلهم من روح المسرح الصوفي، حيث يتم التركيز على البُعد الداخلي، الروحي والوجداني، ما يمنح النص المسرحي عمقا إنسانيا متفردا، يجعل من الخشبة ساحة تأمل واستبطان.


المرأة المهمشة... صوت ينتزع من صمت القهر

تجربة ركحية تختزل الألم النفسي في تجلياته الأكثر تعقيدا وصدقا


من جهتها، كشفت الممثلة جميلة المصلوحي في تصريحها لـ"العلم" أن الدور الذي تؤديه هو لامرأة سلبت حقوقها الأساسية، وعلى رأسها الحق في التملك والكرامة. تجسد المصلوحي شخصية تعيش اضطهادا ممنهجا، وتعكس واقعا مؤلما تعانيه العديد من النساء، خاصة في المجتمعات التي تهمش حقوق المرأة القانونية والإنسانية. عبر أداء يفيض بالألم والصدق، تحول الممثلة المسرح إلى منصة لإيصال صوت نساء صامتات تحت وطأة الظلم اليومي.


الإضاءة والموسيقى... بلاغة الضوء وصوت الألم

تجربة ركحية تختزل الألم النفسي في تجلياته الأكثر تعقيدا وصدقا


أما أيوب بنهباش، تقني الإضاءة والتوضيب الموسيقي، فقد أضاء على البعد السيكولوجي العميق للعمل، موضحا أن المسرحية اعتمدت في بنيتها الجمالية على توظيف ذكي للضوء والموسيقى. فاللون الأزرق، المستوحى من فضاءات الطب النفسي، شكل خلفية بصرية توحي بالاضطراب والهدوء في آن، بينما مثلت مناطق الإضاءة المركزة تجسيدا لمشاهد التحليل النفسي واسترجاع الذكريات. أما الضوء الأحمر، فقد وظف بشكل تعبيري لنقل حالات الهيستيريا والانفجارات العاطفية، مرافقا بموسيقى حزينة تجسد شروخ الذات وتصدعات الذاكرة.


ثنائية القطب... حين يحبس الجسد في زنزانة العقل

تجربة ركحية تختزل الألم النفسي في تجلياته الأكثر تعقيدا وصدقا


في جانب آخر من العمل، يجسد حسني زكرياء شخصية رجل يعاني من اضطراب ثنائي القطب، تم إدخاله إلى مستشفى الأمراض العقلية في ظروف قهرية، إثر حكم جائر. تكشف الشخصية عن معاناة داخلية مركبة، يتداخل فيها الألم النفسي مع الحاجة إلى التعبير الفني، خاصة من خلال الرقص، الذي يشكل بالنسبة له وسيلة تفريغ وتواصل مع الذات والعالم. إلا أن النظام المجتمعي اختار عزله بدل احتضانه، فتم الزج به في العزلة، حيث يعيش تناقضا دائما بين ما هو كائن وما كان يمكن أن يكون.




              

















MyMeteo



Facebook
YouTube
Newsletter
Rss

الاشتراك بالرسالة الاخبارية
أدخل بريدك الإلكتروني للتوصل بآخر الأخبار