Quantcast
2025 ديسمبر 19 - تم تعديله في [التاريخ]

كالحوت لا يجتمعون إلا في طاجين !

افتتاحية ملحق "العلم الثقافي" ليوم الخميس 18 دجنبر 2025


كالحوت لا يجتمعون إلا في طاجين !
العلم - محمد بشكار

صحيح أن النسيان نعمة، ولكنه أيضا نقمة يجر الويلات على الإنسان، كيف لا وذات الشر الذي يحيق بالمستضعفين، يتكرر كل سنة على مرأى من أولي الأمر، وسواء انشقت الأرض في بلدنا بزلزال، أو بأي كارثة من صُنْع البشر، لا يتحرك ذاك الساكن بعد أن فقد الأهالي المساكن، إلا في خُطب إنشائية تحسبها من شدة حرارتها، ستندلع بقائليها على المنابر
!    

الدور هذه السنة على آسفي العريقة، تلك التي وسمها ابن خلدون بحاضرة المحيط، أما كان أجدر بمن اجتمعوا آكلين من طاجين الحوت، أن يحترموا تاريخ هذه المدينة، قبل أن تهوي بنزلة مطر غريقة، حقا وكما كتبتُ حين قرعت كعادتي الجرس ذات خطر، لا يسقطُ المطر في بلدي إلا ويسْقطُ معه دمعي، كيف لا وأنا أنظر حين أستيقظ باكراً لمنْ باتَ ليله طاوياً مقروراً في العراء، لا تأويه في السُّقوف تحت شرفات المحلات التجارية إلا السماء، وأعلم أنَّ موجة الصقيع في شِدَّتها هذه السنة، قد جعلتْ حتى الهاجعين بالبيوت الدافئة يرتعشون برداً !    

فمنْ جعل المطر يجري من مآقينا دمعا ونحن نحب المطر، ألم نكن صغارا، نرقص ماسكين بأكفنا الصغيرة مع كل قطرة، وعود السنبلة التي ستمتلئ حَبّاً، ألم نكن نردد منشدين كلما انفتحت بالهطول أبواب السماء: آشتا تا تا تا تا أصبي صبي صبي أوْ ليداتَكْ فِي قُبِّي.. آ وْلِيداتْ الحرَّاثة ... نحب المطر وإذا كُنا شعراء نُهرقه حبرا في القصائد، بل وننساب مع السياب شاكرين لهُ أنشودة المطر!

نحب المطر رغم مجراهُ الذي انحرف من السماء، وها هو كباقي السنوات الماضية يسقط بالدمع من أعيننا، نحبُّ المطر مع صغار الفلاحين ما أشبههمْ بالعُشاق، انظر كيف يترصَّدون خطى الحبيبة في هبوب الرياح وقطعان الغيوم ونشراتِ الطقس،  إلى أنْ جاءتهم الحبيبة بوعود صيف وفيرٍ، تسبقها الضفائر حقولا، و من ينْعها أثمرتْ الغلال بالأعناب والرمان أثداءً، تكاد تخطف الأبصار بحِليِّ سنابلها المثقلة ذَهَباً صريحاً، جاءت الحبيبة لتُلقي بكامل زينتها بعد طول انتظار في أذرع صغار الفلاحين، عاريةً تروي ظمأهم للمطر، نُحبُّ المطر ولكن من تركنا نحبُّ المطر، من تركنا نخفق لقطراته ملء القلوب فرحين، ألم تر كيف بفاجعة آسفي، انقلب الجمال إلى قبح، وغار عميقا مع جنائز الضحايا الجرح !   

يسقط مع المطر دمعي، أنظر لتلفزيوننا الرَّسمي، يا لفخامة صوت المذيع وهو ينقلُ مباشرة من دمع المكان، مراسيم سقوط البشر، يكاد يُجهش بالشتاء وهو يقْصفنا بعناوين ما أجمل إنشائيتها على الطاولة فوق القمطر، لذلك لا تسمع بعد أن أصبح ريف البلد وأطلسهِ متلفعاً بالبياض، سوى جُملٍ لا تفيد أحداً من مثل (الطبيعة خلابة تكتسي حُلَّة بيضاء)، ولا يفوت التلفزيون وهو ينتقل بمهنيَّة عالية لمناطق التزحلق الجليدي بمشليفن وأوكيمدن، أن يستجوب أولاداً وبناتاً يبتسمون ببراءة من انتهز فجوةً للعب، فتُشعُّ تحت شفاههم أسلاكُ تقويم الأسنان، يا لروعتها، كم تزيد شاشة تلفزيوننا الرسمي بريقاً، والله وحده يعلم أن شعباً بأطفاله وشيوخه ونسائه الحوامل، معزولٌ في مناطق سحيقة ونائية بتخوم الجبال، من أين لهم أن يستمتعوا بهذه الكسوة البيضاء وقد انقلبت إلى كفن!

ما زال المسؤولون الجماعيون للأسف، لا يجتمعون إلا على طاجين الحوت، يمعنون في الإعراض عن ما يصب في مصلحة الساكنة، سواء من حيث البنية التحتية غمِّس وكُل، أو ما فوقها على جناح بعوضة، وكلما حلَّت كارثة طبيعية بالقرِّ فيضانا وثلوجاً، أو بالحَرِّ جفافاً تشّقّق له الوجوه، لا تنبري إلا القُفَّة تتجوَّل بالصَّدقة في طوابير بشرية، ولا تنْتصبُ المستشفيات إلا في معسكرات متنقِّلةٍ بالخيام، لنصير في نظر العالم، بسرعة المعلومة التي بالأنترنيت تضْرب الطر، مناطق منكوبة أحوج لتدخل وكالات الغوث الدولية، أو هكذا أيتها النُّخب الحاذقة تعبرون عن وطنيتكم الصادقة !

ملحق "العلم الثقافي" ليوم الخميس 18 دجنبر 2025


              
















MyMeteo




Facebook
YouTube
Newsletter
Rss

الاشتراك بالرسالة الاخبارية
أدخل بريدك الإلكتروني للتوصل بآخر الأخبار