Quantcast
2025 أكتوبر 22 - تم تعديله في [التاريخ]

كلام عابر.. في أسس "أفعال القول" عند جون أوستين


كلام عابر.. في أسس "أفعال القول" عند جون أوستين
العلم - د. لحسن الياسميني

غالبا ما اعتد المناطقة والفلاسفة إلا بالقول الخبري المتضمن للحكم مستبعدين القول الإنشائي وذلك على اعتبار أن القول التصديقي أو الخبري هو الذي يأتي بعد التصور ليكون إما صادقا أو كاذبا. وظل هذا الاعتقاد سائدا إلى أن جاء كل من جون أوستين ومن بعده جون سيرل ليعطيا الاعتبار لنوع آخر من القول، وهو ما سمياه بالقول الإنجازي. والذي سنوضح أبرز معالمه في هذه العجالة لعلها تكون مسعفة للمهتمين للتمييز بين أنواع القول.
 
يُعتبر جون لانغشو أوستين John Langshaw Austin أحد أهم أقطاب الفلسفة التحليلية المعاصرة، ورغم موته المبكر (1911-1960) فإن مساهمته كانت فعالة وجوهرية في تطور الفلسفة التحليلية من خلال اهتمامه بالجانب اللغوي ومعالجة بنية القضايا وإعطائها أبعاداً تختلف عن تلك التي أُعطيت لها على مدى التاريخ الطويل للمنطق، باعتبار أن القول الجدير بالاهتمام من الناحية المنطقية هو القول الخبري الحامل للحكم، وليس القول الإنشائي الذي لا يحتكم إلى ثنائية الصدق والكذب، والتي تجعله قابلاً للتقويم المنطقي.
 
فلم يكن من الصدفة اعتبار أوستين واحداً من الفلاسفة التحليليين، ولا أدل على ذلك من مشاركته في الحلقة العلمية التي احتضنتها "رايمونت" Royaumont بفرنسا سنة 1958، والتي ضمّت أهم وجوه الفلسفة التحليلية، وهم على الخصوص جون أورمسون John Urmson وجيلبرت رايل وستراوسون Strawson وويلارد فون كواين W.V.O. Quine وآخرون تحت رئاسة جان وول Jean Wahl. وقد نُشرت أعمال هذا اللقاء بعنوان "الفلسفة التحليلية"، وشارك فيها أيضاً فلاسفة تحليليون أو قارّيون، بالتعبير المعهود.
 
وتُعتبر أعمال أوستين فاتحة عهد جديد في التعاطي مع اللغة من خلال ما أسماه Speech Acts أفعال القول، والذي ضمّن جل أفكاره في كتابه المهم How to do things with words "كيف نقوم بأفعال انطلاقاً من الكلمات"، والذي تُرجم إلى الفرنسية بعنوان Quand dire c’est faire.
 
أفعال القول
 
تعني أفعال القول هذه التي جاء بها أوستين في محاضراته التي جُمعت في الكتاب آنف الذكر، ما يمكننا القيام به من خلال أقوال معينة ومن خلال وضعيات معينة اجتماعية ومؤسساتية وغيرها، من التأثير في المتلقي، كالحث على فعل شيء والطلب والإقناع وإعطاء الوعود. هذه النظرية أخذ بها أيضاً "جون سيرل" John Searle. وقد أراد أوستين أن يخرج بالقول من تلك النظرة التي أعطت القيمة الأولى للقول الخبري الحامل للحكم والقابل للتصديق والتكذيب على باقي أنواع القول، ونعني به القول الإنشائي الذي يتضمن الطلب والأمر والتعجب والذي اعتبره المناطقة لا يخضع للمعيار المنطقي.
 
فالفعل اللغوي حسب أوستين هو فعل تقوم به الكلمة، وهو فعل اجتماعي لأنه يفترض وجود شخصين أو أكثر. إلا أن هذا القول لا يمكن أن يكون جماعياً بل هو شخصي ولا يتصرف فعله إلا في ضمير المتكلم "أنا" (Je). وفي هذا الصدد ميّز أوستين بين نوعين من الأقوال: القول الوصفي constatif والقول الإنجازي performatif. فالقول الوصفي هو ذلك القول الذي يصف العالم أو وقائع العالم كما قال بذلك لودفيغ فيتغنشتاين، وهو القابل حسب المناطقة لأن يكون صادقاً أو كاذباً باعتباره قولاً خبريا تصديقياً.
 
أما القول الإنجازي فهو قول لا يدخل في نطاق الصدق والكذب، ولكنه قول يروم إنجاز فعل ما: "إنني أعدك بالمجيء" مثلاً (فعل الوعد).
 
لاحظ أوستين خلال تأملاته أنه إلى جانب الإنجازات الظاهرة في قول مثل: "إنني سآتي"، الذي يمكن أن يُفهم كوعد، هناك أقوال لا يمكن أن نميزها إلا من خلال الطابع الضمني لفعل الوعد المتحقق. وخلال فعل الكلام يتم التمييز بين ثلاثة نماذج متحققة بفضل اللغة:
 
• Acte locutoire: فعل المتكلم، وهو ما يوازي فعل القول بمعنى إنتاج الكلمة عن طريق تلفظها وإنتاج الأصوات والكلمات وفق قواعد نحوية.
 
• Acte illocutoire: وهو ما ننجزه عندما نقول شيئاً ما، مثل: أُنجز أو أحقق، وفعل وعد بقولي: أعد، أو تساؤل باستعمالنا لصيغة استفهامية، أو بالأمر باستعمال صيغة الأمر.
 
• Acte perlocutoire: وهو ما يوازي الأثر الذي يتركه الكلام عند المتلقي (interlocuteur) نتيجة القول الثاني. فعند طرحي لسؤال فإنني أنتظر جواباً على سبيل المثال.
 
ومما لا شك فيه أن فعل اللغة مفهوم مركزي سمح بنشوء ما يسمى بالتداولية أو بالبراغماتية. وحسب هذه البراغماتية فإن اللغة لا تُختزل فقط في كونها مجموعة رموز تهدف إلى التعبير عن الأفكار وتبادل المعلومات، بل إنها أيضاً المكان الذي تتحقق فيه الأفعال التي تهدف هي الأخرى إلى تغيير الواقع. وهكذا فإنني عندما أقول: "إنني أسمي هذا المركب الملكة إليزابيث" وأقوم بتكسير قنينة على المركب، فإنني لا أتكلم فقط، ولكني بهذا الكلام أنجز فعلاً، إذ إنني أكون قد أطلقت على ذلك المركب اسم "الملكة إليزابيث" وصار يحمل هذا الاسم. وكذلك الأمر عندما يعلن القاضي في محكمة ما: "محكمة"، فإنه يقوم عملياً وبالقول بافتتاح الجلسة.
 
وإلى جانب هذه الأفعال أو أفعال القول، ولكي نستطيع إنجاز ما يجب أن ننجزه لابد من توفر سياق اجتماعي ملائم. فقد تبقى مجموعة من الأفعال المسماة "عادية" والتي تقوم بها اللغة دون حاجة إلى شروط محددة Conditions spécifiques. فعندما أطلب من شخص ما أن يصمت أو عندما أسأل كم الساعة، فإنني أنجز الفعل عن طريق القول، وهذه أفعال تؤثر مباشرة في المتلقي وتدفعه إلى القيام بما طلبته منه.
 
وتبقى الإشارة إلى أنه لابد من التمييز بين فعل القول (acte de langage) وبين الفعل التواصلي. فمفهوم الفعل التواصلي يحدد حقاً أن فعل القول، وبما أنه يضيف شيئاً إلى الفعل التواصلي، فإنه يضيف شيئاً إلى محيطه، أي إلى الوضعية التي يندرج فيها (مكان، تاريخ المتحدث.. إلخ). ذلك أن هناك تسميات أخرى تندرج في نفس الاهتمام الخاص بالتحديد والدقة، وهي الخاصة بالفعل الخطابي، وبالأخص الخطاب الشفهي المكتوب أو الفعل التفاعلي.
 
القول الخبري والقول الإنشائي
 
افترض الفلاسفة، في نظر أوستين، لزمن طويل، أن دور الإقرار أو القول التأكيدي (statement) لا يمكن أن يكون إلا وصفاً لحالة أشياء أو تأكيداً لشيء ما. وظل هذا في نظرهم رهين قيمة صدقية واحدة، وهي القيمة الثنائية: صائب/خاطئ (vrai/faux). ولاحظ أوستين ـ على غرار بعض النحويين ـ أن كل الجمل (sentences) نسبت بالضرورة إقرارات وتأكيدات: فهناك إلى جانب هذه الصفة جمل استفهامية، وأخرى تعجبية، وأخرى أمرية أو آمرة، وأخرى للتمني... إلخ.
 
ولكي يخرج أوستين من هذا الإشكال بدأ أولاً بالتمييز بين الإقرارات والتأكيدات وبين الجمل (sentences). وهو تمييز قد يرفع بعض الغموض عن معرفة الفرق بين أنواع القول، أي بين المعتقد أن يكون أقوالاً منطقية تقريرية (affirmations)، وبين الأقوال التي اعتبرها المناطقة في السابق أقوالاً إنشائية لأنها لا تخضع لثنائية الصدق والكذب باعتبارها غير إخبارية. وإذا كان الفلاسفة والنحويون يستعملون، في بعض الأحيان، الجمل والتقريرات بنفس المعنى، فلقد أدخل جون أوستين إضافة جديدة في مجال التقريرات، كما أدخل إضافة جديدة في مجال فلسفة اللغة خاصة فيما يتعلق بتعريف القضية أو الجملة المنطقية، أو التمييز بين القضية وبين الجملة من الناحية النحوية، سنعرض لذكرها فيما سيأتي.
 
ويجب في البداية طرح السياق الذي جاء فيه هذا التمييز. فقد اعتاد المناطقة وفلاسفة اللغة على التمييز بين نوعين أساسيين من الأقوال: القول الخبري والقول الإنشائي، فاعتبروا أن القول الخبري يدخل فيما نسميه منطقياً وفلسفياً بالقضية. ومن خصائص هذه القضية الأولى أنها إخبارية، أي أنها تخبر بشيء ما، وهذا الإخبار يحتمل قيمتين لا ثالث لهما: أن هذا الإخبار إما أن يكون صادقاً وإما أن يكون كاذباً. وهذا هو الأساس الذي يقوم عليه القول المنطقي، بالإضافة إلى أن القضية المنطقية، والتي تدخل في خانة الإخبار، تتضمن الحكم: أي الحكم بنسبة شيء لشيء، "الشمس طالعة" على سبيل المثال، أو الحكم بنفي شيء عن شيء في مثال: "الشمس ليست طالعة". غير أن النفي أو كون الجملة منفية لا ينزع عنها صفة التقرير (affirmation). فقد ذهب البعض إلى أن هذه الكلمة ـ في اللغات الأجنبية ـ تعني فقط الإيجابي، لكن على العكس من ذلك، فإن التأكيد قد يؤكد الإيجابي مثلما يؤكد السلبي كما في المثالين السابقين.
 
وما دمنا نتحدث عن الجملة التي تتضمن الحكم، لابد هنا من الإشارة إلى خصوصية لا تتضمنها اللغة العربية وهي غياب فعل الكينونة être وهو الرابط في اللغات الأجنبية، وهو ضروري لأنه هو المثبّت للحكم. مثال: le ciel est clair. هكذا تستقيم الجملة أو القضية لأنها تتضمن موضوعاً هو le ciel ومحمولاً هو clair والرابط (copule) وهو فعل الوجود est.
 
وقد انتبه المناطقة المسلمون الأوائل الذين كتبوا بالعربية في المراحل الأولى، وفي مقدمتهم الفارابي، إلى هذا الخصاصة التي تلزم الجملة المنطقية العربية، فحاولوا تعويضها بإضافة مكملات، فنجد عندهم "السماء توجد صافية" أو "السماء هي صافية"، عوض الاكتفاء بجملة "السماء صافية".
 
بالإضافة إلى ما ذُكر، فإن القول الإنجازي لا يكون نافذاً إلا في شروط معينة، وإلا إذا كان صادراً من أشخاص معينين. على سبيل المثال: لا يكون الحكم القضائي نافذاً إلا إذا كان في إطار محكمة منعقدة بشكلياتها المعهودة، ويكون الشخص الذي يعلن الحكم هو الشخص المخول له ذلك، أي القاضي. أما إذا كان هذا القول خارج هذا السياق ومن غير الشخص المعترف له بذلك، وليس في المكان المخصص لذلك، وهو المحكمة، فإن ذلك القول لا ينفذ. وبالتالي، لا يكون إنجازياً. لذلك فإن مراعاة الشروط التي تكون معروفة ومعترفاً بها، ويكون الشخص معروفاً ومعترفاً به، ضرورية ليكون القول الإنجازي قولَ فعل.
 
ويمكن القول إن ما ذهب إليه أوستين في حديثه عن المقامات والوظائف التي تُرتِّب الأوضاع والأهليات، يتوافق مع ما يطرحه الفيلسوف الأمريكي روبيرت براندوم( 1950). فالمقامات عند أوستين ليست مجرد صفات شكلية، بل مواقع يكتسب فيها الكلام والفعل قوتهما انطلاقاً من شروط اجتماعية وثقافية تضفي عليهما المشروعية. وهذا عين ما يؤكد عليه براندوم حين يربط الأوضاع والأهليات بشبكة معيارية من الالتزامات والتبريرات، حيث لا يكون للفرد مقام ولا أهلية إلا في حدود ما يعترف له به الآخرون. إن الاعتراف المتبادل هنا هو الذي يضمن ثبات هذه الأوضاع ومعناها، كما يحدد في الآن نفسه حقوق الأفراد وواجباتهم داخل فضاء عقلاني مشترك. وهكذا يتضح أن أوستين وبراندوم يلتقيان في جعل المقامات والأهليات حصيلة سيرورة اجتماعية معيارية، وليست مجرد معطيات طبيعية أو ثابتة.ويجعلان منها شرطا لنفاذ الأقوال ومصداقية الأفعال التي تترتب عنها.

              



في نفس الركن
< >

الجمعة 17 أكتوبر 2025 - 12:37 بدأ العَدْ لتحرير كل البلدْ !
















MyMeteo




Facebook
YouTube
Newsletter
Rss

الاشتراك بالرسالة الاخبارية
أدخل بريدك الإلكتروني للتوصل بآخر الأخبار