Quantcast
2023 ديسمبر 17 - تم تعديله في [التاريخ]

نكوص فرنسا في معاقلها التقليدية


العلم - بقلم عبد الله البقالي

علاقات فرنسا بمستعمراتها السابقة ليست على ما يرام منذ فترة ليست بالقصيرة. فقد توالت الارتدادات العنيفة التي هزت أركان هذه العلاقات انتهت في كثير منها إلى مغادرة (حتى لا نقول تعبيرا آخر) فرنسا لكثير من مواقعها التقليدية الاستراتيجية التي كانت تعتبر إلى وقت قريب معاقل رئيسية لفرنسا.

ولم يعد خافيا اليوم أن موجة تنامي مشاعر العداء الشعبي العام تجاه فرنسا في كثير من المستعمرات الفرنسية السابقة خصوصا في القارة الأفريقية، أضحى حقيقة ثابتة، لم يعد ممكنا إنكارها أو التستر عنها. والسبب الواضح في ذلك، الذي لا يستحمل أي تأويل، يكمن في أن شعوب المستعمرات السابقة لفرنسا الاستعمارية، خصوصا في القارة السمراء لم تعد تطق وجود علاقات بلدانها مع فرنسا قائمة أساسا، وبصفة رئيسية على خدمة المصالح الفرنسية الاقتصادية منها والسياسية، وأن المستعمرات القديمة مجرد خزان لكثير من المواد الأولية وللثروات الباطنية التي تشحن جميعها إلى فرنسا لتلبية حاجيات المجتمع الفرنسي الداخلية والخارجية، وهي بذلك علاقات غير متوازنة في خدمة المصالح الفرنسية فقط. وتسود قناعة عامة لدى شعوب هذه الدول أن وجود علاقات بهذه الاختلالات كان و لا يزال، سببا رئيسيا من جهة، في الثراء الذي تعرفه فرنسا، ومن جهة ثانية في التخلف المدقع التي تعيشه دولهم.

حينما نحاول أن نرصد التطورات و المتغيرات التي تؤكد وجود العلاقات بين فرنسا ومستعمراتها السابقة في منطقة اهتزازات عنيفة، نستحضر في هذا الصدد طرد القوات الفرنسية من الأراضي المالية، التي قيل إنها كانت موجودة هناك للتصدي للجهاديين المتطرفين، بما كان يسمح بوجود قاعدة عسكرية فرنسية و آلاف الجنود في أدغال أفريقيا، لكن رغم هذا الوجود الفرنسي العسكري فإن أنشطة الجهاديين المتطرفين زادت وتنامت، و اعتبر الوافدون العسكريون الجدد في مالي أن الوجود العسكري الفرنسي يندرج في سباق أهداف أخرى غير معلنة، مما دفع بهم إلى مطالبة القوات الفرنسية بمغادرة التراب المالي. كما اقتدى حكام النيجر بنظرائهم الماليين، حيث طالبوا بدورهم القوات الفرنسية بمغادرة التراب الوطني، لتلحق بهم بعد فترة وجيزة دولة النيجر، حيث أطاح العسكر بنظام الرئيس محمد بازوم، ومباشرة بعد ذلك طردوا السفير الفرنسي في نيامي والقوات الفرنسية هناك. وحاول قصر الإليزيه في باريس معارضة الانقلابيين وعدم الاعتراف بالنظام الجديد بدعوى وصولهم إلى الحكم عن طريق الانقلاب العسكري، ولم يجد أدنى خجل في ذلك وهي نفسها فرنسا التي دعمت محمد إدريس ديبي الذي وصل إلى الحكم في تشاد بنفس الطريقة، أي بانقلاب عسكري بعد اغتيال والده.

التحديات الكبيرة التي تواجهها فرنسا مع مستعمراتها السابقة لم تقتصر تداعياتها على خارج فرنسا، بل كان لها صدى قويا في الداخل، ولم ينحصر ذلك في فضاءات النقاش العمومي في وسائل الإعلام والمنتديات، والتي لم تخل من انتقادات حادة لسياسة فرنسا تجاه الدول الأفريقية التي كانت مستعمرات فرنسية سابقا، من ذلك القول بأن (فرنسا وقعت في مصيدة الساحل بسبب مواقف الرئيس إيمانويل ماكرون واعتماده خطابا استعماريا، مما أجج مشاعر الكراهية في صفوف مواطني المنطقة)، بل في الأوساط السياسية أيضا.

وفي هذا الإطار نشر سياسيون من حزب الحركة الديموقراطية الفرنسية الذي ينتمي إلى يمين الوسط، ومن حزب الجمهوريين اليميني تقريرا، اشتغل عليه معدوه لشهور عديدة، واعتمد إنجازه على إجراء لقاءات ومقابلات مع العشرات من رجال ونساء السياسة في فرنسا وفي العديد من الدول الأفريقية، ومع شخصيات عسكرية وسياسية وأكاديمية وممثلين عن المجتمع المدني. وحاول التقرير فهم وتفسير التراجع الكبير للنفوذ الفرنسي في القارة الأفريقية بالخصوص. وخلص التقرير إلى التعبير (عن الأسف لكون فرنسا الحريصة على تجديد علاقاتها مع أفريقيا وتجنب أخطاء الماضي والمحرومة من معرفة تفصيلية للقارة، معتمدة على خيارات سياسية غير مؤكدة ترفض الآن تبني سياسة أفريقية حقيقية). وألح التقرير على ضرورة اتباع نهج استراتيجي جديد للبحث عن علاقات أكثر مساواة. كما نصح التقرير الحكام في فرنسا بأهمية تغيير الأسلوب في التعامل وإلى (تبني موقف متواضع والكف عن إلقاء خطابات كبرى ترفع التوقعات كثيرا لكنها تنتهي بخيبات أمل).

هذا النكوص الفرنسي في معاقله الرئيسية السابقة قابلته أطماع روسية وصينية في تثبيت حضور قوي هناك، وهو الحضور الذي اعتمد مسالك اقتصادية وتجارية سالكة، بدأت نتائجها في الظهور بسرعة كبيرة، وتمثلت في استثمارات صينية ضخمة وفي اتفاقيات تعاون اقتصادية روسية وصينية مع العديد من الأقطار في القارة السمراء.

ويحاول الرئيس الفرنسي ماكرون، في مسعى يبدو متأخرا، جاء في الوقت بدل الضائع تدارك الأمر قبل انتقال العدوى إلى دول و مناطق أخرى باستمالة العواطف حينما رد على الانتقادات الداخلية و الخارجية بالدعوة إلى " إجراء تغييرات تاريخية في بصمة فرنسا ما بعد الاستعمار في أفريقيا ، عبر التخلي عن الاستراتيجية الفرنسية الأفريقية التي سعت بموجبها فرنسا إلى إبقاء أفريقيا تحت سيطرتها، و تعرضت غالبا إلى انتقادات بسبب النهج غير السوي في علاقاتها مع القارة الأفريقية " .

هذه التطورات التي تكشف النكوص الاستراتيجي لفرنسا في العالم، وتحديدا في معاقلها التقليدية، تؤكد أن فرنسا الماضي والتاريخ، التي كانت تبسط سيطرتها على جزء مهم من الكرة الأرضية، وحاضرة بقوة في ساحة العلاقات الدولية كفاعل رئيسي، تختلف عن فرنسا الحاضر واليوم، الذي تقلص فيه نفوذها وأفل حضورها، وكادت تتحول إلى ملحقة لقوى عالمية أخرى.

              

















MyMeteo



Facebook
YouTube
Newsletter
Rss

الاشتراك بالرسالة الاخبارية
أدخل بريدك الإلكتروني للتوصل بآخر الأخبار