Quantcast
2022 أكتوبر 11 - تم تعديله في [التاريخ]

مدينة الفنيدق بين الصيف والشتاء

خلق استراتيجية بديلة لتأهيل المدينة كفيل بإدماجها في النسيج السوسيو-اقتصادي الوطني


العلم الإلكترونية - ريورتاج: أنس الشعرة

في صباح يوم خريفي، هادئ، ومشمس، زرقة السماء وصفاؤها تنهمر على دنيا الناس. على جنبات "الكورنيش"، يتراءى لكَ البحر بزرقته الداكنة مدّ البصر، مستغرقًا في هدوئه الخريفي، منتظرًا ضحاياه وزواره، على حد سواء. حيثما وليتَ وجهك تظهر لكَ الضفة الأخرى صافية لاشيةَ فيها. ومرور السيارات الخفيف، جيئة وذهابا، يشي بسيرِ حياةٍ طبيعية تمامًا. إنه يوم من أيامِ الله بمدينة الفنيدق، هنا في أقصى شمال المغرب، أو كما يسميها أهلها وأهالي مدينة تطوان، أقرب المدن إليها، بـ"كستييخوس"، أي القلاع البعيدة، بلسان البرتغاليين أو القشتاليين، العابرين بها يوما ما. لو ذرعتَ جنباتها قليلا، ستجدها محتفظة بأطلال القدامى الذين مروا من هناك، وبِزيها الكولونيالي، الذي ذابت هويته، كما ذابت هوية المدينة بعدَ إغلاق معبر باب سبتة!

تحكي الذاكرة، أن المنطقة كانت تعرف دينامية اقتصادية كبرى، بل تعد من أهم المناطق التي توفر فرص شغل لكل من تضيق به السبل، ولا يجد أمامه إلا معبر باب سبتة، أو ممارسة البيع والشراء، في أفنية ودروب المدينة، أما اليوم، فإن المنطقة منذ إغلاق معبر باب سبتة، _على الأقل_ بينَ المغرب وإسبانيا، في وجه ممتهني التهريب المعيشي، أزمة حقيقة، تلقي بظلالهَا على الوجوه المتعبة الحالكة، التي تجدها في أرجاءَ المدينة. التقينا بمصطفى بلهادي، بائع متجول بالمدينة، ليصف لنا الحال والأحوال هناك، يقول:  "الأوضاع الاقتصادية في حالة جد مزرية، وحركة البيع والشراء متوقفة"، ويضيف المتحدث بخصوص" الأوضاع الاجتماعية فهي كذلك جد متدهورة، بِتنا نعيش على القروض وعلى سدادها فقط، طول السنة".

تتحدث المؤشرات الرسمية للمندوبية السامية للتخطيط، لهذه السنة، أن عدد سكان المدينة، يقدر بـ 269,927، أي بنسبة 6,92 بالمائة، من مجموع الساكنةِ بالجهة ككل، وبحسب تقرير للمؤسسة ذاتها، بعنوان "إسقاطات السكان و الأسر ما بين 2014 و 2050"، فإنّ ساكنة المضيق _الفنيدق، ستشهد دينامية سكانية متسارعة بنسبة 3,1 بالمائة في حدود سنة 2030، وهذا الرقم مرشح للتزايد، بيدَ أنّ مشكلة أخرى، برزت منذ السنوات القليلة الماضية، وتقف حجر عثرة أمامَ هذهِ الدينامية الديمغرافيا، فبعد إغلاق المعبر في وجه الممتهنينَ، وبعد ذلك انتشار  أزمة كوفيد_ 19، تفشت ظاهرة غير متوقعة، تتمثل في مغادرة سكان المدينة، المنطقة ككل، بحثًا عن فرص شغل تَقيهم مرارة الأزمة والسؤال. بعضهم يصفها بمدينةِ الأشباح، نظرًا لوثوب العطالة وتوقف توافد الزوار عليها.

يحدثنا عبد العظيم بن بلال، عضو المجلس الوطني بحزب الاستقلال، قائلا: "كان أغلب سكان المدينة يمتهنون التهريب المعيشي، وبإغلاق معبر باب سبتة، وظروف جائحة كورونا، أثرا بشكل كبير على الوضع المعيشي بالمنطقة"،  ويضيف المتحدث ذاته أنه "بسبب تهديد الشركة المكلفة بتزويد المنطقة بالماء الصالح للشرب والكهرباء، لم يعد للساكنة، من حل إلا إفراغ منازلها، أو الخروج للاحتجاج"، ربما كانَ هذا السيناريو باديًا للعيانِ لمنَ خبرَ المنطقة، وعرفَ كيف يدبر المرء هناك معيشه اليومي، ويخبرنا الحسين الرجع، وهو بائع متجول بالمنطقة، أو أضحى كذلك: "أن السلطات المحلية، حاولت إيجاد حلول، في اللحظة التي تم إغلاق المعبر، من خلال إحداث سوق نموذجي للباعة المتجولين، لكن ظروف كورونا، وأوضاع خاصة متعلقة بصحة الباشا، حالت دونَ إحداث ذلك"، ويضيف بأسى: "للأسف تبخر كل شيء في النهاية، ولم يتم إعادة إحياء هذا الملف من جديد".

هناكَ على جنبات الطرق، يتراءى للمرء طابور  طويل منَ طاكسيات الأجرة الكبيرة، تتحدث الذاكرة عن أن هاته السيارات لم تكن تتوقف حركتها ليلاً ونهارًا ! وهكذا يحدثنا عبد الجليل الصويري، سائق طاكسي الأجرة بالمنطقة، وعضو الاتحاد العام للشغالين بالمغرب عن أن سيارة الأجرة الكبيرة، بالمنطقة كانت تعرف حركية دائمة ومستمرة، لا تتوقف، بيدَ أن إغلاق معبر باب سبتة، أغلقَ معه كل أبواب الحركة تلك، تعود ذاكرة عبد الجليل إلى الماضي ، حيث تتراقص بذهنه صور المدينة بالأمس القريب، والحال التي أضحت عليها اليوم، ثم يقول في جو منَ الحسرة:"قطاع سيارات الأجرة بمدينة الفنيدق أضحى موسميا، فقط، خلال شَهري يوليوز وغشت، ما عدا ذلك فالسائق يعاني، معاناة شديدة".  ويضيف المتحدث أن: "المشكل الأكبر الذي يعاني منه سائق سيارة الأجرة اليوم، هو مشكل إغلاق معبر باب سبتة، دونَ حلول بديلة. وصل السائق الآن مرحلة متأزمة جدًا، فهو لم يعد يستطيع حتى توفير معيشه اليومي، وأداء سومة كراء المأذونية، أمام ارتفاعها، وارتفاع أسعار المحروقات".

أثناء سيرنا بالمدينة، اهتدينا إلى التواصل مع نائب كاتب مجلس جماعة الفنيدق، ومسؤول خلية الإعلام والتواصل بالمجلس، محمد عزوز، الذي أكد لـ"العلم" صعوبة العيش بالمنطقة، "الشيء الذي دفع بالسلطات المحلية والإقليمية والجهوية إلى التعامل مع الأوضاع بجدية تامة"، ويضيف المتحدث "كانت هناك حلول قامت بها السلطات، مثل: خلق فرص في الإنعاش الوطني، وخلق وحدات صناعية، وإنشاء منطقة الأنشطة الاقتصادية بضواحي المدينة، وهي حلول وإن ساهمت في امتصاص نسبة من البطالة والتخفيف من حدة الاحتقان الاجتماعي، فإنها لم تكن كافية لإيجاد حلول جذرية لواقع الأزمة بالمنطقة والذي أتى في الأصل كنتيجة طبيعية لاختلال موازين قوى اقتصادية واجتماعية ومالية بالمدينة". تسود منطقة الأنشطة الاقتصادية، حالة ضبابية، وهي كما يرى ذلكَ الحسين الرجع، "لايستفيد منها سكان المنطقة بطرق مباشرة، بل يستفيد منها فقط، التجار الكبار"، ويضيف المتحدث، "أن اليد العاملة بالمنطقة غير مؤهلة للعمل بمنطقة الأنشطة الاقتصادية، ما يضاعف من مأساة المنطقة"، الشيء الذي خلق مفارقة من نوع آخر، متمثلة في وجود يد عاملة، لكنها غير مؤهلة.

تُنبه تقارير رسمية وغير رسمية عديدة، من توالي الفوارق الاجتماعية وتفاقمها، وحرمان الفئة النشيطة،  من ثمار النمو الاقتصادي، فضلا عن الفوارق بين مناطق نشيطة ومدن صغيرة ومتوسطة، ويرى بن بلال، "أن الحل الوحيد، هو الإسراع بالأوراش التي انطلقت بعد الاحتجاجات، وإحداث المنطقة الصناعية، التي يمكنها سد الخصاص المهول في العمل". ومن أجل ردم هوة الفوارق الاجتماعية، يتفق سكان المنطقة وكافة الفاعلين، السياسيين، والحقوقيين، والاقتصاديين، أنه يجب إعادة تنظيم معبر باب سبتة، بما يضمن للمواطنين كرامتهم اليومية، الشيء الذي سيجنبهم العطالة طويلة الأمد، وبما يضمن أيضا سيرورة الاقتصاد الوطني وخطته البديلة.

في نظر، محمد عزوز، أنه منَ " الضروري خلق استراتيجية عميقة لتأهيل المدينة وإدماجها في النسيج السوسيو-اقتصادي الوطني، وذلك عبر خلق هوية اقتصادية جديدة بالمنطقة مبنية على النشاط السياحي والتجاري، وتنشيط "كورنيش" المدينة من خلال مشاريع ترفيهية نموذجية"، ويضيف المتحدث ذاته، أنه من الخطط البديلة، "تقديم تنازلات مالية وضريبية ووضع تسهيلات مِسطرية تساهم في استقطاب المستثمرين من جميع المناطق، بهدف خلق نواة اقتصادية وسياحية جديدة من شأنها الرقي بأوضاع المدينة والقطع مع الأنشطة غير المهيكلة والخروج بالمدينة من وضعية العشوائية والفوضى واللّامشروعية إلى مناخ المشروعية، ودعم الاقتصاد المهيكل المبني على أسس موضوعية و قانونية وواضحة".

تأتي هذه المقترحات في صيغ عملية وواقعية، بناء على معطيات يومية ومن صميم معاناة الساكنة، وهذا ما تطلبه ساكنة المنطقة، معالجة من صميم أزماتها، تنبثق من احتياجاتها الضرورية. وهو ما يؤكده عبد الجليل الصويري بخصوص سيارة الأجرة، يقول إنه "من بين الحلول التي يجب أن تكون، هيكلةُ معبر باب سبتة، وتنظيمه، بتدخل السلطات المحلية والإقليمية التي عليها أن تسهرَ على هذه العملية"، ويضيف "بما أن هناك فائضا كبيرًا في أعداد سيارة الأجرة الكبيرة، الذي يبلغ عددها، 450 سيارة، يجب فتح اتجاهات ومنافذ موازية مع مدن أخرى، كما هو شأن العديد من المدن، الشيء الذي  سيساهم في حل هذه الأزمة".

أما مصطفى بلهادي، يرى أن الباعة المتجولين، "في حاجة إلى حركية اقتصادية حقيقة، منه إلى سوق نموذجي أساسًا"، وذلكَ عائد إلى فقدان منطقة الفنيدق لأهم عنصر لها، وهي الحركية الاقتصادية، وبناء على ذلك يجب التفكير في عمليات إعادة إحياء هذه الحركية، من خلال استراتيجيات محكمة وخطة واضحة ومحددة في الزمان. فما يعاني منه أهالي المنطقة، هو غياب استراتيجية تدريجية، تنبثق من قدرات المواطنين أنفسهم، وهو عينه ما يؤكده الحسن الرجع عندما عبّر صراحة، عن إن منطقة الأنشطة الاقتصادية لا تستفيد منها الطبقات المحتاجة، وفي الآن ذاته أكدّ أن، "الحل الممكن، يجب أن ينطلق من إعداد رؤية تحفظ كرامة المواطن"، وأضاف المتحدث ذاته:  "يجب تقنين عملية تنقل البضائع بشكل قانوني بين البلدين، وعدم ترك الأمور  في يد السماسرة الكبار، الذين، يتاجرون بالملايين". وهذا عنصر أخر يضاعف من أزمة الباعة المتجولين، وممتهني التهريب المعيشي، الذين يشكون من تغلب التجار الكبار في المنطقة واستفادتهم بشكل غير قانوني من معبر باب سبتة. 

إحدى النقاط التي تحتاج إلى بلورة وهيكلة عميقة بالمنطقة، تلكَ المتعلقة بالأنشطة الاقتصادية، إذ يراها مجموعة منَ الأهالي أحد المنافذ التي قد تعيد للمنطقة، شيئًا من بريقها، وحركيتها الاقتصادية المعهودة، وكما يؤكد بن بلال  أنه بالفعل "هناك اليوم العديد من المجهودات، للخروج بالمنطقة من هذه الأزمة، لكن يجب الإسراع بإحداث المنطقة الصناعية، وتطوير منطقة الأنشطة التجارية، وتسريع الأوراش العالقة التي دشنتها السلطات".

تعد منطقة الأنشطة الاقتصادية التجارية بالفنيدق، أحد أبرز التجارب النموذجية على المستوى الوطني، نظرًا لموقعها الاستراتيجي القريب جدًا من ميناء طنجة المتوسطي الرائد إفريقيا ومتوسطيا، وهي منطقة تتوفر على بنيات تحتية وتجهيزات حديثة بناء على المعايير العالمية، كل هذه الإمكانيات الكبيرة، بإمكانها أن تكونَ في متناول أهالي المنطقة والمناطق المجاورة لها، التي تؤهلها أن تكونَ نافذة تجارية وطنيا وإفريقيا مستقبلاً.

المطلوب اليوم أن تكثف السلطات المحلية والإقليمية والجهوية، من دعمها لهذه المنطقة، وجعلها أحد البدائل الكبرى في الخطة الوطنية للنهوض بالاقتصاد الوطني عموما، وتحويلها إلى منفذ سياحي داخلي على طول السنة، نظرًا للإمكانيات التاريخية، والثقافية التي تزخر بها المدينة، والتي في العادة لا يتم الالتفات إليها.

تغرب شمس الله عن المدينة، في جو هادئ وزمن بطيء، تمامًا، كما تشرق على المدينة، نفس الهدوء ونفس البطء في الزمان، تتجمد هذهِ الصورة، طول السنة، ما خلا شهرين يتيمين، ينتظرها أهالي المنطقة بصبر ودعاء ورجاء. صبر على قسوة الأيام، ودعاء من القلب نحوَ السماء، ورجاء في غد أفضل لهم ولأبنائهم!

              

















MyMeteo



Facebook
YouTube
Newsletter
Rss

الاشتراك بالرسالة الاخبارية
أدخل بريدك الإلكتروني للتوصل بآخر الأخبار