Quantcast
2025 سبتمبر 7 - تم تعديله في [التاريخ]

"غروب".. مسرحية تفتش في وجع الإنسان وتضيء انكساراته بلوحات شعرية

العرض ليس مجرد حكاية عن الفشل بل عن الرغبة في إعادة "طرح السؤال "ماذا بعد الغروب؟


"غروب".. مسرحية تفتش في وجع الإنسان وتضيء انكساراته بلوحات شعرية
العلم - شيماء اغنيوة

في فضاء مسرح المنصور بالرباط، انطلقت رحلة مسرحية "غروب"، العمل الجديد لفرقة Eureka، في عرض ما قبل أول يوم الثلاثاء 2 شتنبر 2025، بدعم من وزارة الشباب والثقافة والتواصل. حدث مسرحي شكل إضافة للمشهد الثقافي المغربي، وأعاد إلى الخشبة ذاك النفس التجريبي الذي يمزج بين الرؤية البصرية المبتكرة واللغة الشعرية المكثفة.
 
هذا العمل الذي وقعه المخرج والمؤلف ياسين هواري، لا يكتفي بأن يكون عرضا مسرحيا عاديا، بل ينهض كرحلة إنسانية مأزومة، حيث تتقاطع الخيبات الفردية بالهشاشة الاجتماعية، وحيث تختبر المبادئ أمام إغراءات الواقع وضغوطه. مسرحية "غروب" تضع المشاهد في مواجهة أسئلة وجودية حادة، من الحرية إلى الغياب، ومن البوح المؤجل إلى الحلم المنكسر.

"غروب".. مسرحية تفتش في وجع الإنسان وتضيء انكساراته بلوحات شعرية
يتميز عرض "غروب" بقدرته على الإمساك بخيوط الألم الإنساني وتحويلها إلى صور شعرية متوهجة، لكنه في الوقت نفسه لا يسقط في فخ المباشرة أو الميلودراما. قوته تكمن في توازنه بين الواقعي والرمزي، بين الحكاية الفردية والأسئلة الكونية، ما يجعل المتفرج يعيش تجربة جمالية وفكرية مزدوجة بين فرجة بصرية مشحونة بالرموز، وتأمل داخلي يعيد صياغة علاقتنا بالحرية والغياب والانكسار. بهذا المعنى، ينجح العمل في تثبيت مكانته كأحد التجارب المسرحية التي توسع أفق التلقي وتفتح الباب أمام مسرح مغربي يغامر بالبحث دون أن يتخلى عن جذوره الإنسانية العميقة.

المتن الدرامي ينسج حبكته من قصة الصحفي عادل (وليد المعروفي)، الذي دخل عالم الصحافة مشتعلا بالعدالة والجرأة، مدافعا عن الفقراء والمضطهدين، لكنه سرعان ما وقع في غواية المادة وتنازل عن مبادئه، فتصدعت صورته في عين زوجته مريم (أمينة الليق)، التي أحبته لشجاعته لا لضعفه. انهياره الأخلاقي كان بمثابة انكسار وجودي انتهى به وراء القضبان، فيما بقيت مريم وحيدة تنتظر مولوداً يحمل إرث الهزيمة وإمكانية الأمل معاً.
 
بالتوازي، تبرز شخصية خولة (حنان العلام)، الصديقة الكتومة التي حملت حبا صامتا ليعقوب، شقيق مريم. لكن صمتها الطويل يوازي قرار يعقوب (ياسين هواري) بمغادرة الوطن عبر “الحريك”، لينتهي غرقا. هنا يتحول الغياب إلى سؤال، والبوح إلى ضرورة قبل فوات الأوان. إن الغروب في هذه اللحظة ليس نهاية فقط، بل مرآة لزمن يتداعى، ورمز لعبور من الانكسار إلى أفق الاحتمال.

"غروب".. مسرحية تفتش في وجع الإنسان وتضيء انكساراته بلوحات شعرية
من الناحية الجمالية، صاغت السينوغرافيا التي أنجزتها هدى الحامض و إضاءة رميساء شراشر لغة بصرية مكملة للنص، فيما أضفى مابينغ فيديو لرضا التسولي وصوت ملكوت قيش في العزف والغناء توترا متأرجحا بين النور والعتمة، بين رمزية الأفول وإشارات الميلاد الجديد. بذلك، يتحول الفضاء المسرحي إلى لوحة بصرية تنبض بالرموز، توازي كثافة اللغة الشعرية في النص.
 
أما الأداء التمثيلي فجاء متماسكا، وليد المعروفي جسد ببراعة التحولات الداخلية لشخصية عادل، بينما منحت حنان العلام شخصية مريم عمقا إنسانيا وهي تتأرجح بين الحب والخذلان. أمينة الليق قدمت خولة كصورة مكثفة للصمت المميت، فيما بصم ياسين هواري العمل بحضوره المزدوج، مؤلفا ومخرجا وممثلا، ليصهر رؤيته الإبداعية داخل بنية العرض.
 
"غروب" ليست حكاية عابرة، بل فرجة بصرية وشعرية تغوص في سراديب الروح الإنسانية، وتطرح أسئلة الحرية والغياب والحلم المؤجل. منذ تأسيسها، عودت الفرقة جمهورها على أعمال تجريبية تنفتح على أشكال تعبيرية متنوعة، وتجعل من الخشبة مجالاً للتأمل الجمالي والفكري.
 
إن قوة "غروب" تكمن في قدرتها على الجمع بين الخاص والعام، فهي من جهة مأساة شخصية، ومن جهة أخرى مرآة لهشاشة جماعية يعيشها المجتمع المغربي؛ حيث المبادئ تنهار أمام ضغوط الواقع، وحيث الشباب يغامرون بأرواحهم في رحلات بلا عودة، وحيث النساء يعلقن بين الحب والفقدان. العرض هنا ليس مجرد حكاية عن الفشل، بل عن الرغبة في إعادة طرح السؤال، ماذا بعد الغروب؟
 
في عمقها، لا تعلن المسرحية الأفول بقدر ما تلوح بإمكان ولادة جديدة، لتجعل من الغروب عبورا من رماد النهاية إلى شعلة بداية أخرى. هي إذن دعوة للبوح، للتمسك بما تبقى من إنسانيتنا، ولرؤية المسرح باعتباره مساحة مساءلة للواقع وتحفيزا للوعي. بهذا، تضع "غروب" نفسها كإضافة نوعية للمشهد المسرحي المغربي، حيث تلتقي اللغة الشعرية بالصورة البصرية، ليصاغ على الخشبة عمل فني وفكري متكامل يزاوج بين العمق الجمالي والأسئلة الوجودية الكبرى.

              

















MyMeteo




Facebook
YouTube
Newsletter
Rss

الاشتراك بالرسالة الاخبارية
أدخل بريدك الإلكتروني للتوصل بآخر الأخبار